حين تغيب المحاسبة تضيع العدالة ويغيب الاستثمار

الدكتور طارق ابو غيث
أصعب ما قد يواجه مجتمعاً أو دولة، أن يترسخ في وجدان الناس شعور بغياب العدالة، وأن يشاهدوا بأم أعينهم كيف ينجو المتهمون بالفساد والإفساد من العقاب، بينما تبقى الضحايا متروكة لمصيرها دون حل، في هذه الحالة تفقد الدولة هيبتها، وتضيع الحقوق، ويصبح القانون مجرد حبر على ورق، لتسود شريعة الغاب.
في الأيام القليلة الماضية، تابع الرأي العام العربي مشهدين متناقضين؛ الأول في لبنان، حيث خرج حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة من السجن مقابل كفالة مالية بلغت 14 مليون دولار، على الرغم من خطورة التهم الموجهة إليه والتي تسببت في خروج مئات الاستثمارات من البلد، أما المشهد الثاني فكان في الصين، حيث أصدرت محكمة حكمًا بالإعدام مع وقف التنفيذ على وزير زراعة سابق بعد إدانته بتلقي رشاوى تجاوزت 37 مليون دولار.
هذان الحدثان يرسمان بصورة واضحة الفرق بين أنظمة تقيم العدل وتضع القانون فوق الجميع، وأخرى تتساهل مع الفاسدين وتغضّ الطرف عن جرائمهم، ولعلها مفارقة تختصر معادلة التقدّم والتخلف: فالأمم التي تقدّس العدالة هي التي تصنع مستقبلها وتكسب ثقة شعوبها والعالم، بينما تلك التي تترك الفساد يعشّش في مفاصلها محكوم عليها بالتبعية والتراجع.
في لبنان، كان الناس يترقبون بريق أمل مع قرار قاضية التحقيق توقيف رياض سلامة بتهم جسيمة، بينها التلاعب بالدستور، والإضرار بسمعة الدولة المالية، وإساءة استخدام السلطة، وبث ثقة وهمية في القطاع المصرفي بغرض اجتذاب الودائع، هذه الخطوة جاءت استجابةً لشكوى رفعها رجل الأعمال العربي الدكتور طلال أبوغزاله، ما منح اللبنانيين والعرب المتضررين شيئًا من الطمأنينة بأن باب المحاسبة قد فُتح أخيرًا.
لكن سرعان ما تلاشى الأمل حين جاء قرار الإفراج عن سلامة، ليتحوّل التفاؤل إلى صدمة وإحباط، المئات بل آلاف المودعين الذين فقدوا مدخراتهم كانوا بانتظار رسالة واضحة من الدولة والقضاء مفادها أن حقوقهم لن تضيع وأن الفاسدين سيُحاسبون واموالهم ستعود اليهم، غير أن ما حدث لم يكن سوى تكريس لشعور عميق بانعدام العدالة.
إن استعادة ثقة المواطنين والمستثمرين، سواء في لبنان أو في أي بلد آخر، لا يمكن أن تتحقق بوعود وشعارات فارغة، بل بممارسات قضائية صارمة تُثبت أن لا أحد فوق القانون. فالمحاسبة الحقيقية والجريئة وحدها هي التي تعيد الثقة إلى الداخل وتجذب الاستثمارات من الخارج. وما لم تُرسَّخ هذه القاعدة، فإن كل حديث عن الإصلاح أو النمو الاقتصادي سيبقى مجرد وهم، لا أكثر.