منبر 29-09-2025 | 12:42

الخروج المر

 لم تهدأ الريح طوال الليل كأنها تخوض حرباً ضروساً ضد الخيم المتهالكة في منطقة مواصي خان يونس
الخروج المر
مسنّة فلسطينية تجرّ كرسياً متحرّكاً أمام الأنقاض في خان يونس. (أ ف ب)
Smaller Bigger

محمد حسين - سوريا


 

 

 لم تهدأ الريح طوال الليل كأنها تخوض حرباً ضروساً ضد الخيم المتهالكة في منطقة مواصي خان يونس، كانت جنباتها تصافح بعضها من شدة الاكتظاظ، كطفل يصافح أمه بعد خروجه من تحت الأنقاض سالماً بقدرة قادر، استفاق محمود وزوجته صباحاً بعد أن أمضيا ليلتهما في إحدى الخيم، لم يشعرا بتلك الرياح لشدة الإرهاق والتعب، جهزا نفسيهما وذهبا إلى مدينة خان يونس حيث شقتهما، فهي رأس مالهما ومأواهما قبل الإخلاء، كانت المدينة منطقة خطرة حيث الغارات الجوية لا تتوقف، والطائرات المسيرة تحلق في السماء تبحث عن أناس أنهكهم الجوع والعطش، أصرا على الذهاب، في الطريق شاهدا قططاً تنهش في بقايا جسد طفل، صعقا من هول المنظر، لم تتمالك زوجته نفسها فانهارت بالبكاء، حضنها محمود ليخفف من حدة روعها، ثم أكملا الطريق حتى وصلا إلى شقتهما، أخرجا بعض المقتنيات الخفيفة، وسارا على الأقدام في رحلة عذاب، لا يعرفان أين سيذهبان، كانت أشعة الشمس اللاهبة تأكل جسديهما، والرطوبة تحيل جبهتيهما إلى صنبور من الماء، في الطريق صرخ عليهما طفلاً لا يتجاوز عمره التسع سنوات يحمل شقيقه ذا الثلاثة أعوام، تقدما نحوه، كان يرتدي ثياباً بالية، نحيل الجسد، حافي القدمين، علامات الجوع، والأرق، والخوف ارتسمت على وجهه.

 

 

 

 محمود: إلى أين أنت ذاهب؟  
الطفل بصوت متهدج: لا أعرف لقد تعرض حينّا للقصف وهربت أنا وأخي ولا أعرف شيئاً عن والدي ووالدتي وأخواتي، فنحن كنا في الشارع نلعب أثناء القصف. 
محمود: هل ترافقنا حتى تهدأ الأوضاع ونبحث عن عائلتك؟
الطفل: يا ريت يا عمو فنحن لا نعرف أين سنذهب؟ 
 تذكر محمود صديقه شريف  الذي يسكن في بلدة عبسان الكبير، انعطف يساراً، سار الجميع مسافة طويلة، كان الطفل الصغير يصرخ يريد ماءً، تجاهل الجميع هذه الصرخات فالبحث عن الماء كالبحث عن إبرة في كومة قش، تابعوا المسير باتجاه الحي الذي لم يتعرض بعد إلى دمار كبير حتى وصلوا إلى الشقة التي يسكنها شريف، ضرب محمود الباب بكلتا يديه، فتح شريف الباب، صرخ محمود، استقبله بحرارة الدموع، أين أنت يا صديقي؟ لقد اتصلت بك عدة مرات على مدى أيام وكان جوالك خارج التغطية فاعتقدت أنك غادرت إلى السماء، الحياة عندنا أصبحت تقاس بالدقائق لا أحد يضمن بقاءه على قيد الحياة لدقيقة.
محمود: اسمع يا شريف أنا مشرد وخرجت من شقتي ولا أعرف أين سأذهب وهذان الطفلان وجدتهما في الشارع هما مثلي لا يعرفان أين سيذهبان؟ البارحة أمضينا ليلتنا في خيمة متهالكة منحتني إياها عائلة لا أعرفها.  
شريف: وصلت يا صديقي لدي شقة أخي فقد استشهد منذ أيام هو وعائلته عندما ذهبوا لإحضار والدتي التي رفضت الخروج من منزلها فتم قصف السيارة التي كانوا يستقلونها، هذا مفتاح الشقة يا صديق العمر، دخلوا إلى الشقة أحضرت زوجته ماء للطفل وبعض الخبز. 
محمود: هؤلاء أولادنا نحن لم يرزقنا الله اعتني بهما جيداً خاطب زوجته...
في صباح اليوم التالي طلب شريف من محمود مرافقته لمنزل والدته ليحاولا إقناعها بتركه والحضور معهما. 
في أولى خطواتهما باتجاه الشارع المؤدي إلى المنزل. تفاجآ بقصف شديد للمنطقة، انبطحا أرضاً حتى انتهاء سقوط الشظايا والحجارة والغبار، هرعا مسرعين حتى وصلا إلى  المنزل، كان بابه مفتوحاً، صرخ شريف بكل قوته... أمي.. أين أنت ؟ 
خرجت والدته من الغرفة، لماذا تصرخ يا ولد؟ 
شريف: اعتقدت أنك قد فارقت الحياة، بالله عليك تعالي معي إلى منزلنا.
الوالدة: لن أغادر منزلي إلا إلى القبر، لقد حدثني جدك عن مأساته عندما ترك بيته وأصبح لاجئاً، اذهب يا ولدي إلى أطفالك هم  يحتاجون إليك. تدخل محمود محاولاً إقناعها لكن دون جدوى.
ذهب شريف يجر أذيال الحسرة والألم، في طريق العودة باغتهما قصف عنيف من الطائرات على عمارة بالقرب منهما انبطحا أرضاً،اعتقد كل منهما أنه أصيب، أخذا يتحسسان جسديهما، صرخ شريف لقد نجونا...
غيرا مسارهما وسلكا طريقاً آخر.
الحمدلله وصلنا إلى منطقة شبه آمنة.. قال شريف.. لم يكمل عبارته حتى تعرضت المنطقة لقصف أشد مما سبق، اهتزت الأرض تحت قدميهما، إنها أهوال يوم القيامة، سقطا أرضاً.
شريف: هل أصابك شيء يا محمود..
محمود: الحمد لله نجونا اليوم لكن لا نعلم غداً..
  شريف: دع القدر يقرر وأرسل رسالة إلى أمة المليارين دمنا سيبقى يلاحقكم حتى يوم القيامة...


  
العلامات الدالة

الأكثر قراءة

العالم العربي 9/29/2025 5:14:00 PM
"نحن أمام مشروع ضخم بحجم الطموح وبحجم الإيمان بالطاقات"
تحقيقات 9/30/2025 4:06:00 PM
تقول سيدة فلسطينية في شهادتها: "كان عليّ مجاراته لأنني كنت خائفة"... قبل أن يُجبرها على ممارسة الجنس!
ثقافة 9/28/2025 10:01:00 PM
"كانت امرأة مذهلة وصديقة نادرة وذات أهمّية كبيرة في حياتي"
اقتصاد وأعمال 9/30/2025 9:12:00 AM
كيف أصبحت أسعار المحروقات في لبنان اليوم؟