على هذه الأرض ما يستحق الحياة… بين الشعار والواقع

محمد خراط*
قالها محمود درويش يوماً، فصارت لازمةً تردّدها الألسن وتُكتب على الجدران. غير أن المفارقة أن الشاعر نفسه قضى معظم حياته بعيداً عن تلك الأرض التي تغنّى بها. ومع مرور الوقت تحوّلت العبارة إلى شعارٍ يردده كثيرون، بعضهم لم يعرف هذه الأرض إلا من خلال الأخبار والصور، وربما لم يتأكد يوماً إن كانت فعلًا تحمل ما يستحق الحياة.
اليوم، صارت الجملة أشبه بـكلمة مرور يتداولها جيل عربي واسع، يستخدمها للتعبير عن تضامنٍ مع قضية، أو محاولةٍ لإثبات انتماء. نسمعها في المقاهي والمطاعم، على موائد الطعام الفاخرة، وفي صباحات الفنادق المترفة. لكن السؤال الجوهري يبقى حاضراً: عن أي أرض يتحدثون؟
الكثير ممن يرفعون الشعار يعيشون في عواصم أوروبية أو خليجية وفّرت لهم فرصاً للحياة الكريمة والأمان، بعيداً من ظروف الأرض التي جعلوا منها عنواناً لخطاباتهم. بعضهم هاجر بحثاً عن مستقبل أفضل، ثم عاد ليُحوّل تلك العبارة إلى رمزٍ يردده في المناسبات، من دون أن يختبر فعلاً ما تعنيه.
وما يثير الانتباه أكثر، هو أن جزءاً كبيراً من هؤلاء الشباب يقضي حياته غارقاً في أنماط العيش التي فرضها الغرب: من العلامات التجارية العالمية التي يتباهون باقتنائها، إلى أسلوب الحياة الاستهلاكي الذي يرونه قمة التحضر. ورغم ذلك، تجدهم أول من يطالب بالمقاطعة، وأول من يرفع الشعارات المناهضة، بينما يومهم قائم أصلًا على تلك المنتجات التي يطالبون الآخرين بالاستغناء عنها. يعيشون في أمان وكماليات، ثم يطالبون غيرهم بالثبات والصمود، مكتفين هم بخطابات على المنصات الرقمية وصفحات التواصل الاجتماعي.
وهنا تبرز المفارقة: هل يكفي أن نردّد الشعار كي نكون أوفياء لمعناه؟ هل يمكن لمن اعتاد رفاهية المعيشة وكمالياتها أن يتخلى عنها حقاً من أجل ما "يستحق الحياة"؟ أم أن العبارة تحوّلت إلى مجرد واجهة، تُستخدم للتخفيف من شعورٍ بالذنب أو لإثبات موقفٍ لا يتجاوز حدود الكلمات؟
الواقع أن الجملة التي كتبها درويش كانت تحمل بعداً إنسانياً عميقاً، مرتبطاً بالتجربة والمقاومة والأمل. لكنها اليوم تُستعمل كثيراً كشعار فارغ، بعيد عن التجربة، وأبعد عن التضحية. وهنا يكمن الخطر: أن نفقد المعنى الحقيقي لعبارةٍ وُلدت من قلب المعاناة، لنحوّلها إلى مجرد زخرف لغوي لا يكلّفنا شيئاً.
ربما ما يغيب عن أذهان كثيرين من الشباب العربي الذين يرفعون شعار "على هذه الأرض ما يستحق الحياة" هو سؤال بديهي: أية أرض يقصدون؟ فغالبيتهم تقيم في دولٍ خليجية أو أوروبية وفّرت لهم الأمان، وأتاحت لهم التعليم والوظائف، وأمّنت لهم حياة اجتماعية كريمة. ومع ذلك تراهم يهاجمون سياسات هذه الدول، وينقضون نظمها، متناسين أن ما ينعمون به من استقرار هو ثمرة لهذه السياسات ذاتها.
هنا تبرز إشكالية أخلاقية: إذا كانت تلك الأرض قد منحتك ما يحفظ كرامتك ويصون حياتك، أفلا تستحق هي الأخرى أن تُدرج ضمن ما يستحق الحياة؟ أليس من واجب المنصف أن يحترم تنوّع المبادئ، ويقدّر اختلاف التجارب، بدلًا من الاكتفاء برؤية ضيقة تختزل “الحياة الكريمة” في شعار أو أرض بعينها؟
يذكّر بأن الوفاء للأرض لا يعني التنكّر للأرض الجديدة التي استضافتك. فالتعايش، والانفتاح، واحترام المختلف، هي بدورها أشكال من المقاومة الإيجابية، ومن صون ما "يستحق الحياة" أينما وُجد.
*كاتب وناقد
-المقاربة الواردة لا تعكس بالضرورة رأي مجموعة "النهار" الإعلامية.