منبر 26-09-2025 | 11:20

مي شدياق: صرخة الكلمة في وجه الرصاصة

في مثل هذا اليوم من أيلول، تنفتح جراح الذاكرة على لحظةٍ نزف فيها قلب لبنان ألمًا وصدمة، حين امتدّت يد الغدر لتغتال صوتًا اختار أن يحيا حرًّا، وتستهدف وجهًا شكّل مرآة للجرأة والوضوح على الشاشة.
مي شدياق: صرخة الكلمة في وجه الرصاصة
مي شدياق
Smaller Bigger

فرانسيسكا موسى 

 

 

في مثل هذا اليوم من أيلول، تنفتح جراح الذاكرة على لحظةٍ نزف فيها قلب لبنان ألمًا وصدمة، حين امتدّت يد الغدر لتغتال صوتًا اختار أن يحيا حرًّا، وتستهدف وجهًا شكّل مرآة للجرأة والوضوح على الشاشة. كان المشهد أكبر من محاولة قتل جسدٍ واحد؛ كان محاولة لاغتيال الأمل في وطنٍ تعلّق دائمًا بالكلمة الصادقة كطوق نجاة... 25 أيلول 2005 لم يكن يومًا عاديًا، بل كان جرحًا في ذاكرة الإعلام اللبناني، ومحاولة لإخماد كلمة مي شدياق، التي واجهت الموت وخرجت منه أكثر قوةً وإصرارًا. انفجار السيارة الذي استهدفها لم يترك ندوبًا جسدية فقط، بل أعاد رسم ملامح مسيرتها ورسالتها، وحوّلها إلى رمز من رموز الصمود في وجه الترهيب.

 

 

لقد جاءت محاولة اغتيال مي شدياق في مرحلة حساسة من تاريخ لبنان. كانت البلاد آنذاك غارقة في دوامة الاغتيالات بعد رحيل الرئيس رفيق الحريري، حيث أصبحت الأصوات المعارضة مهددة بالرصاص والمتفجرات. مي شدياق، بصوتها المرتفع وبرامجها الجريئة، كانت واحدة من تلك الأصوات التي لم تخشَ مواجهة الحقائق، ولم تُساوم على مبادئها. الرسالة التي أراد منفذو الاغتيال إرسالها كانت واضحة: إسكات الكلمة الحرة. غير أن النتيجة جاءت عكسية؛ فقد ولدت من بين الركام قصة إعلامية وإنسانية اصبحت شاهدة على زمن الخوف وزمن التحدي معًا. لم تكن رحلة مي بعد الانفجار سهلة. خاضت سلسلة طويلة من العمليات الجراحية والعلاج في لبنان والخارج، واضطرت للتأقلم مع خسارتها ليدها ورجلها. لكنّها لم تستسلم يومًا، بل عادت إلى الشاشة بعزيمة أكبر، لتُظهر أن الجسد قد يُصاب لكنه لا يهزم الروح. في كل ظهور لها بعد الحادثة، كانت تحمل رسالة أعمق من الخبر والتحليل السياسي؛ كانت تجسّد معنى المقاومة المدنية، ومعنى أن يظل الإنسان وفيًا لمهنته حتى وهو يعيش تبعات الألم يوميًا. سياسيًا، لم تكن محاولة اغتيال شدياق حادثة معزولة. هي جزء من سلسلة طالت سياسيين وصحافيين في تلك الفترة، من جبران تويني وسمير قصير إلى بيار الجميل وغيرهم. هذه الجرائم وضعت لبنان أمام مرآة مرعبة، أظهرت كيف يمكن أن تتحول الكلمة إلى تهمة، وكيف تصبح مهنة الصحافة في بلد مأزوم معركة حياة أو موت. وحتى اليوم، لم تتحقق العدالة الكاملة في هذه الملفات، وهو ما يطرح علامات استفهام حول غياب المحاسبة وإفلات الجناة من العقاب. غير أنّ مي شدياق لم تسمح لجرحها أن يتحول إلى استسلام. فإلى جانب استمرارها في العمل الإعلامي، أسست مؤسسة تحمل اسمها تُعنى بحرية الإعلام وحقوق الإنسان، وسعت إلى أن تجعل من محنتها منبرًا للآخرين. كما خاضت لفترة وجيزة غمار السياسة، معتبرة أنّ الدفاع عن الحرية لا يكتمل إلا بالمشاركة في الشأن العام. حضورها الدائم في الإعلام والحقوق والسياسة جعل من اسمها رمزًا لا يرتبط فقط بمحاولة اغتيال، بل بقصة انتصار على الخوف. إن استذكار 25 أيلول اليوم ليس مجرد وقفة مع حادثة شخصية، بل هو استدعاء لذاكرة جماعية عاشها اللبنانيون في مرحلة مليئة بالدم والقلق. هذه الذكرى تذكّر بأن الصحافة في لبنان لم تكن يومًا مهنة عادية، بل مغامرة محفوفة بالمخاطر، وأن ثمن الكلمة الحرة قد يكون حياة الصحافي نفسه. لكنها تذكّر أيضًا أن إرادة الحياة قادرة على أن تجعل من الألم قوة، ومن الجرح رسالة.
قد يختلف اللبنانيون في السياسة، لكنّهم يتفقون على أن تجربة مي شدياق مثال نادر على كيف يمكن للإنسان أن يحوّل محنته إلى معنى. لقد حاولوا إسكات صوتها، فإذا بصوتها يعلو أكثر؛ حاولوا كسرها، فإذا بها تتحول إلى رمز من رموز الشجاعة. وفي كل عام، حين يعود 25 أيلول، يعود السؤال نفسه: هل تغيّر شيء في بلد ما زال يفتقر إلى العدالة وحماية الصحافيين؟ قد تكون الإجابة ملتبسة، لكن المؤكد أنّ ذكرى مي شدياق ستبقى محفورة في الذاكرة اللبنانية كبرهان على أنّ الكلمة الحرة أقوى من الرصاصة، وأن صوت الحقيقة لا يُغتال.

 

 

 

المقاربة الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة رأي مجموعة "النهار" الاعلامية

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

العالم العربي 9/29/2025 5:14:00 PM
"نحن أمام مشروع ضخم بحجم الطموح وبحجم الإيمان بالطاقات"
تحقيقات 9/30/2025 4:06:00 PM
تقول سيدة فلسطينية في شهادتها: "كان عليّ مجاراته لأنني كنت خائفة"... قبل أن يُجبرها على ممارسة الجنس!
ثقافة 9/28/2025 10:01:00 PM
"كانت امرأة مذهلة وصديقة نادرة وذات أهمّية كبيرة في حياتي"
اقتصاد وأعمال 9/30/2025 9:12:00 AM
كيف أصبحت أسعار المحروقات في لبنان اليوم؟