الأجيال الجديدة… وجمهوريتهم الخاصة

في بلدٍ اعتاد أن يُحكم بالوراثة السياسية، تتكوّن اليوم طبقة شابة تكتب دستورها غير المعلن. جيل وُلد في زمن الحرب أو بعدها، كبر على انقطاع الكهرباء والماء، عاش انهيار العملة، وتجرّع مرارة الفساد والزبائنية. ومع ذلك، يصرّ على صناعة "جمهوريته الخاصة"، بعيدًا عن الشعارات التقليدية والحدود الضيقة للأحزاب الطائفية.
في المقاهي الجامعية ومجموعات "واتساب" وبين جدران الصفوف، لم يعد النقاش يدور حول أي زعيم سيعقد صفقة جديدة أو "من سيتحالف مع من"، بل عن أي سفارة تُسهِّل إجراءات الهجرة، وأي دولة تفتح أبوابها أمام طلاب العلوم والتكنولوجيا والإعلام. هذا التحوّل ليس تفصيلاً عابرًا: إنه نتيجة تراكم سنوات من الخيبات الوطنية.
أرقام تفضح الواقع
وفق إحصاءات رسمية صادرة عن وزارة التربية لعام 2024، سجّل أكثر من ٦٥ ألف طالب جامعي طلبات لمعادلة شهاداتهم في الخارج. تقرير البنك الدولي أشار إلى أنّ ما يقارب 46% من الشباب اللبناني بين 18 و35 عامًا يفكرون بالهجرة الدائمة. هذه الأرقام ليست مجرد نسب جامدة، بل هي مؤشر على أزمة وطنية وجودية: ماذا يبقى من وطنٍ إذا قرّر نصف جيله الشاب أن يغادر؟
الجمهوريات الصغيرة
لكن اللافت أنّ هذا الجيل لا يكتفي بالهرب. بل يصنع "جمهورياته الخاصة":
• جمهورية رقمية: عبر "إنستغرام" و"تيك توك"، حيث يعبر الشباب عن غضبهم، يسخرون من السياسيين، ويبتكرون خطابًا جديدًا.
• جمهورية ثقافية: موسيقى الراب والمهرجانات البديلة، معارض فنية صغيرة، مبادرات قراءة في أحياء لا تصلها الدولة.
• جمهورية المبادرة الفردية: مشاريع ناشئة في التكنولوجيا والتجارة الإلكترونية، يؤسسها طلاب جامعيون بلا دعم رسمي، بل بالاعتماد على تمويل جماعي أو قروض صغيرة.
هذه "الجمهوريات" لا تحمل شعارات حزبية، ولا تنتظر جلسة في البرلمان. إنها تتحرك بسرعة ومرونة، خارج الإطار التقليدي الذي شلّ لبنان عقودًا طويلة.
أزمة الثقة
المشكلة الأكبر أنّ الجيل الجديد لا يثق بالنظام السياسي. استطلاع أجراه "المعهد اللبناني للدراسات" في منتصف 2025 أظهر أنّ 82% من الشباب لا يعتقدون أن الأحزاب التقليدية قادرة على إنقاذ لبنان. هذه النسبة العالية تُفسّر موجة اللامبالاة تجاه الانتخابات النيابية الأخيرة، حيث سجّلت مشاركة الشباب أدنى مستوى منذ الاستقلال.
حتى مفهوم "الوطنية" تغيّر: بالنسبة لجيل الحرب، كانت الوطنية تعني الانتماء إلى الطائفة أو الزعيم. بالنسبة للشباب اليوم، الوطنية قد تعني ببساطة البقاء على أرض لبنان رغم كل الظروف، أو نشر صورة لشاطئ رملي ملوّث مع تعليق ساخر، أو تنظيم حملة بيئية لإزالة النفايات من نهر بيروت. الوطنية هنا فعل مقاومة يومي، لا شعار سياسي.
ماذا بعد؟
يبقى السؤال: هل يستطيع هذا الجيل أن يفرض "جمهوريته الخاصة" على أرض الواقع، أم سيبقى متناثرًا بين العواصم الأوروبية والخليجية؟ التجارب التاريخية تُظهر أنّ الأزمات الكبرى قد تولّد حركات تغيير. انتفاضة 17 تشرين 2019 كانت المثال الأوضح: آلاف الشباب في الساحات يطالبون بدولة مدنية. لكنها سرعان ما واجهت آلة المنظومة الحاكمة وتراجعت.
اليوم، قد لا يكون الشارع هو الساحة الوحيدة. الفضاء الرقمي صار بديلًا قويًا، والمبادرات الفردية تتكاثر رغم الانهيار. لكن ما ينقص هذا الجيل هو التنظيم السياسي الحقيقي: برنامج واضح، قيادة شابة موثوقة، وآلية لمواجهة ماكينة الأحزاب الطائفية.
خاتمة:
لبنان يقف على مفترق خطير: إمّا يستمر في فقدان شبابه واحدًا تلو الآخر، أو يُدرك أنّ هؤلاء ليسوا مجرد مهاجرين محتملين، بل القوة الوحيدة القادرة على إنقاذه. "الجمهورية الخاصة" التي يصنعها الشباب ليست حلمًا طوباويًا، بل مشروع حياة يُبنى من رحم الفشل. والسؤال الذي يفرض نفسه اليوم: هل تسمح المنظومة لهذا الجيل أن يتنفّس، أم أنها ستواصل خنقه حتى يُطفئ أنفاس الوطن معها؟