واقع أخطاؤه شائعة

منبر 26-09-2025 | 01:18

واقع أخطاؤه شائعة

...في تلك اللحظة اجتاحني خوف كبير من استكمال القراءة لأنني خشيت أن أعرف مصير ثمرة قد تكون أمها اضطرت إلى تربيتها في كنف زوج مماثل، ثمرة تشكّلت تحديداً حين أرادت الطبيعة شاهداً على تلك الوحشية وضحية أكبر لها.
واقع أخطاؤه شائعة
تعبيرية. (مواقع)
Smaller Bigger

منال عبد الأحد

 

 

لا أعرف إن كانت القصة قد بدأت عام 2009 في أحد مقاهي شارع الحمرا، وبصراحة مطلقة لم أعد منذ مدة أربط أسماء شوارع بيروت بطقوس معينة أو صبغة ثقافية أو حتى عاطفية أجدها عائمة لا شك في سيل من الكليشيهات. ها أنا أثبت لنفسي ذلك مرة جديدة، بعد أن استذكرت للتوّ ما قاله الشاب عن أنه تُرك في شارع آخر قريب، علماً بأن الحكاية نفسها حصلت وتحدث في أزمنة وأمكنة مختلفة.

يومها، لم أدرك أن ذلك الشاب الذي أكّد أنه يرغب في التعرف إلى والديه البيولوجيين ليفهم أسبابهما وحسب، كان في الواقع يحاول أن يبرر بحجة منطقية إشكالية غيابه المستتر في وجود. لقد وُلد "بالغلط" أي ليس محض صدفة حتى، بل لم يكن مرغوباً فيه، بمعنى أن غيابه كان ليكون مفاجأة أقله غير حزينة، أو عابرة، أو لربما نجاة من ورطة، أو جريمة شرف، وما أدرانا؟! بالتالي فإنه، وبمنطق الطبيعة، حبة نقلتها الريح إلى أرض أخرى كي تتأرجح بين ترابها وهوائها، تحاول اتّخاذ مسار يحميها من تلك الغربة عن ذاتها المتجذّرة في أعماقها، بدلًا من أن يكون، وبمنطق الطبيعة عينها وبُعدها البيولوجي أيضاً، بذرة راسخة في تربة رطبة.

حكى الشاب ذو الملامح السمراء مراراً عن والديه (بالتبنّي) السويسريين ولم أستطع أن أميّز مشاعر الحب عن أحاسيسه بالامتنان. آلمني ذلك كوني أميل إلى الاعتقاد بأن ازدواجية المشاعر تُفقدها رونقها ودفءها. فالمشاعر هي اختبار روعة لا ندركها بأي من حواسنا، واختلاطها بالتالي يزيل عنها شيئاً من سحرها. فنحن إن أحببنا لا نحتاج لأن نبحث عن الحب في الامتنان، والعكس صحيح، انطلاقاً من مجانية المشاعر، أو تفلّتها من أي بُعد محض مادي.

لن أمعن هنا في تحليل الفرضيات المذكورة أعلاه، لأنني استرجعت للتو تلك اللحظة التي راح الشاب يقنعني فيها بسيناريو محتمل حاكه في مخيّلته منذ سنوات، معتبراً أن والدته كانت أماً عزباء توفي حبيبها في ثمانينيات الحرب اللبنانية، واضطرّت بالتالي إلى التخلي عن طفلها، وأيقنت كم احتاج الشاب الرجل في داخله إلى حب من نوع آخر، لم يجده لدى والدين تبنّياه لأنهما أرادا طفلًا لم يكن هو بالتحديد، بل بفعل الصدفة أو الضرورة. وتذكّرت نظرته الحائرة فيما يحكي قصة صنعها تؤرجحه بين واقع ووهم قد لا يقطع يوماً شعرة معاوية التي تربطهما. وهنا حضرني مضمون بعض السطور التي قرأتها في دراسة معمّقة عن مرحلة التشكّل النفسي للطفل في بطن أمه، وتأثّره بحالتها النفسية إلى حدّ أنه في لاوعيه كإنسان سيشعر بالأمان كلما سمع مقطوعة موسيقية أنصتت إليها بفرح خلال الحمل، فكيف بكائن بشري أحسّ بأمه تتمتم تعويذة الخوف من مجيئه لأسباب تتعلّق بكل شيء أو أحد إلّاه. لا أعرف إن كانت مساعدة مفترضة يقدّمها علم النفس منطقية والحال هذه، فكيف لشخص أن يفهم ويحلّل أبعاد مشاعر لم يختبرها في الغالب؟! أما الإنصات والتفّهم فليسا أكثر من بلسمة ناعمة لجرح عميق تمرّنه على التآلف مع نفسه.

 

عيون تخفي أرواحاً قلقة
عيون تخفي أرواحاً قلقة

 

كان لا بدّ من أن أودّع الشاب بعد أكثر من ساعتين، لأنه وصديقه المصوّر مشغولين بمهمة تمشيط الشارع حيث عُثِر عليه، وتوثيق لحظات البحث. أما أنا وللأمانة المطلقة، على الرغم من أنني تمنّيت في البداية لو طلبا مني مرافقتهما، كنتُ في الوقت عينه متلهّفة لاستكمال قراءة مقالة من نوع "الثرثرة" الاجتماعية، المفيدة أحياناً، عن شهادات حياة لنساء خضعن للعنف أو الاغتصاب الزوجي حتى، علماً بأنني كنت قد عثرت فيها على حكاية امرأة قالت إنها حملت بطفلتها عقب حادثة مماثلة، قبل أن أنصرف للحديث معهما على أثر تعارفنا محض صدفة.

وفي تلك اللحظة اجتاحني خوف كبير من استكمال القراءة لأنني خشيت أن أعرف مصير ثمرة قد تكون أمها اضطرت إلى تربيتها في كنف زوج مماثل، ثمرة تشكّلت تحديداً حين أرادت الطبيعة شاهداً على تلك الوحشية وضحية أكبر لها.

 
العلامات الدالة

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 11/28/2025 3:43:00 PM
نيفين العياصرة: "تعرضت إلى الشتائم والقدح والذم وسأتخذ بشأنها إجراءات قانونية واضحة".
لبنان 11/26/2025 5:22:00 AM
كل ما يجب معرفته عن زيارة الحبر الأعظم الأحد
لبنان 11/30/2025 7:25:00 AM
 البابا لاوون الرابع عشر في لبنان "وطن الرسالة"، في أجواء مشحونة بالتحديات ومفعمة بترقب خاص
سياسة 11/28/2025 5:57:00 PM
تفاصيل غير مسبوقة عن كيفية وصول الموساد إلى عماد مغنية