منبر 24-09-2025 | 12:48

بين حبر الطائف والحلم الغائف

الشمس تتثاءب ببطء على جبين الأرض المثخنة بالجراح، الغيم والريح يلتقيان على بساط الوطن المنهك، ورق شهر أيلول أصفر، لكن أوراق اتفاق الطائف بيضاء، كُتبت بنودها بالدمع الحزين.
بين حبر الطائف والحلم الغائف
من الارشيف
Smaller Bigger

ريمي الحويك

 

الشمس تتثاءب ببطء على جبين الأرض المثخنة بالجراح، الغيم والريح يلتقيان على بساط الوطن المنهك، "ورقو اصفر شهر أيلول"، لكن أوراق اتفاق الطائف بيضاء، كُتبت بنودها بالدمع الحزين.
 كهمسة تتسلل بين صخور الليل الهادرة، أو قوس قزح يظهر بعد عاصفة مهلكة، اتفقنا بأن نتعانق لأجلنا ولأجل الأرض التي اختنقت من سيل دمائنا.

لم يكن الاتفاق مجرد ورقة تحمل توقيعاً، بل كان مرآةً لأحلام متعبة، ودموعاً رطبة، وهمس أمل يتسلّل كنسيم رقيق بين أنقاض الحرب. الطائف لم يكن نهاية الطريق، بل فجرٌ جديد، بوابة تهمس للجرحى بأن الجراح ستلتئم، وأن وطناً مترنحاً بين الخوف والأمل، بين ماضٍ يثقل كاهله وحاضر يتلمّس خطواته، سيحاول النهوض من رماده. هو قلبٌ حيّ يخفق بين جراح الأرض، روحٌ تمشي على أطلال الماضي وتهمس بالغد. يقف على مفترق الزمن، بين خرابٍ وعنفوان، بين انكسارٍ وولادة. كل بند فيه شعلة، كل فقرة جذر يربط الأرض بالسماء، كأن الوطن يتشبث بأنفاسه الأخيرة بالحياة. الطائف يصرخ بصمتٍ، يهمس لنا أن لبنان، رغم الرماد والدماء، ما زال ينبض، ما زال يولد من جديد، شامخاً، حيّاً، متجدّداً، كنبضٍ أبديّ لا يعرف الاستسلام، كحلمٍ أسطوريّ يرفض النزول عن مسرح الحياة.
أراد الطائف أن يضمّد كسور لبنان، أن يرفع عن كاهله أثقال الانقسامات والخيبات، أن يحرّره من قيود الماضي ليجعل قلبه ينبض بحرية، لا يخطو خطوات متردّدة بل يركض متعافياً، قوياً، كجسد طال شوقه للشمس بعد طول مرض، كروح تنتفض من بين رماد الألم، كشمسٍ تشرق من جديد على أرضٍ عطشى للحياة.
أما الأنظمة القاتمة، فقد أرادته مقعداً عليلاً، يتأرجح بلا نهاية، راكعاً ذليلاً، جاثماً على صدر الوطن كظلٍ يثقل الأفق، كصخرة سوداء تسدّ طريق النّور، تمنعه من التّنفُّس، تُبطِئ نبضاته، وتُبعده عن فرح الربيع وحُرية السير، كأنّها يدُ موتٍ تلتفّ حول قلبه، وتعيق كل محاولة للنهوض، تاركة الأرض أسيرة بين الماضي والحلم.
بدا الوطن كأم أنهكها المخاض، تتلوّى بين أحلامها ووجعها، وتحتضن في أحشائها شمساً تتوق للولادة. وحين بزغ المولود، أطلقوا عليه اسم الجمهورية الثانية، وعلّقوا على صدره خرزة الأمل، وغسلوه بسيل الشراكة وعطّروه بعبير المناصفة.
لكنّ المولود، ما إن فتح عينيه على العالم، حتى وجد نفسه في حضن غريب، تحت سقف لا يشبه بيت أهله، وأيدٍ خارجيّة تُطعمه وتنقّله وتعلّمه أن يتنفّس على مقاسها، حتى صارت أنفاسه رهينة وصاية جارة غليظة، قاسية كالصقيع، لا تعرف الرحمة.
وحين ظنّ أن قبضتها ستلين، بزغ ظلّ آخر، أطول من الليل وأقسى من الشتاء، امتدّ على صدره كقاربٍ غارق، حتى صار المولود معبراً للأسلحة والكبتاغون والعملات السوداء، غارقاً في بحر من مصالح لا تشبهه، يحلم بالحرية بين موجٍ من الغربة والخيانة.
كبر الحلم ببطء، كطفل مريض، يخطو خطوة ويتعثّر بخطوتين. وكانت أمّه، الدولة، عاجزة عن حمايته، وتفتح أبواب بيتها لكل من يملؤه بالغربة والخذلان.
واليوم، يقف هذا المولود على حافة قدره، بين أن يستيقظ من غيبوبته ليحيا، أو أن يذبل في غرفة الإنعاش. بين أن يولد من جديد، ولادة كاملة، أو أن يبقى عالقاً في نصف حياة، يتنفّس نصف حريّة، ويحلم بنصف أمل.
لقد علّمنا الطريق الطويل أن الوصاية ليست أمّاً، وأن التّبعيّة لا تُنشئ أبناءً أحراراً. من يبيع وطنه في سوق السّياسة، يربح الكرسيّ لكنّه يخسر البيت، يكسو نفسه بالسُّلطة لكنّه يُعرّي أرضه من السيادة.
نحن نحمل لبنان في قلوبنا، لا نرضى وطناً على عكّازين، ولا علماً يرفرف بإذن غيره. نريد لبنان الستينيات، لبنان الجامعات التي تنطق بلغات العالم، والمسرح الذي يُضحك ويُبكي، والصحافة التي تكتب بلا قيود، والشارع الذي يحتضن الجميع دون استثناء.
الوصاية الجديدة ليست قدراً، بل خيار، والانهيار المستمر ليس لعنة، بل استسلام. ولأن الحياة انتصار للأقوياء في نفوسهم لا للضعفاء، فقد حانت ساعة الولادة، وصرخة المولود يجب أن ترتفع هذه الجولة لتملأ الجبل والساحل والسهل، لتزيح الغبار عن وجوهنا وتعيد النور إلى عيوننا.
لقد طاف لبنان بأطيافه الطائفية أحياناً، وخبا نوره أحياناً أخرى، من المارونية السياسية، إلى السُنية السياسية، وصولاً إلى الإيديولوجية الخامنئيّة. أما آن للفتيل أن يُطفأ، وللوطن أن يتحرر هذه المرة من كل قيود؟ أما آن للشعب أن يرفع رأسه بلا خوف، وأن يختار نفسه، ويحمل وطنه بلا وصاية، بلا حدود، بلا أسلاك؟
لبنان ليس خريطةً على الورق، بل قلب ينبض في صدورنا، وشمس تشرق على جباله، ونهر يسري في وديانه، وشارع يضيق اتساعه على كلّ حلم، كل فكرة، كل إنسان يريد أن يعيش بحريّة كاملة. برد الطقس وبدّو يجي سمّن ولبنان الذي نحلم به لن يكون وهماً، بل وعدٌ، فنحن موجودون، ونحن نحيا، ونحن نستحقّ الحياة، أسمى حياة نستحقّ.
كُلّنا إيمان أنّ لبنان الذي صُلب ومات ودُفن، سيقوم في الجمهورية الثالثة.
حقّاً، سيقوم.

 


المقاربة الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة رأي مجموعة "النهار" الاعلامية

 

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

شمال إفريقيا 10/6/2025 7:23:00 AM
فرض طوق أمني بالمنطقة ونقل الجثتين إلى المشرحة.
اقتصاد وأعمال 10/7/2025 5:24:00 AM
سترتفع كلفة تسديد مفاعيل التعميمين من نحو 208 إلى 260 مليون دولار شهريا، بزيادة نحو 52 مليون دولار شهريا
النهار تتحقق 10/6/2025 11:04:00 AM
ابتسامات عريضة أضاءت القسمات. فيديو للشيخ أحمد الأسير والمغني فضل شاكر انتشر في وسائل التواصل خلال الساعات الماضية، وتقصّت "النّهار" صحّته.