النفايات مرآة حضارة الشعوب
المهندس راشد جان سركيس
كانت النظافة في لبنان موضع اهتمام رسمي كبير وكان بذلك موصوفاً بالترتيب والرقي والحضارة والثقافة في آن واحد، في حين كان اقتصاده يلمع ويزدهر في مجال الخدمات والتعليم والتشريف والسياحة والثقافة عينها، في بيئة نظيفة، وكان بذلك مرتع الحضارات يبرز مستوى مجتمعياً مميزاً، اشتهت أجيال بل شعوب التمثّل به...
ومع هذا الواقع الذي كان قبل العام 1975، لم يعمل أحد على التخطيط الاستراتيجي كما يجب، وأتت حرب أعداء لبنان لتدمر الاقتصاد والثقافة معاً. نجحوا في الأول وحوّلوه حركة مالية لا قاعدة لها، ولا جذور، تتحطم مع كل ريح تضرب البلاد.. أما الثقافة فتجذرها العميق تمرّد بها على الموت، وصارت تترنح بين الوعي مرة والغيبوبة المتفاوتة مرات، حتى بلغ بنا الأمر ليتبنى البعض يوماً الطمر ويوماً آخر الحرق ظناً منه ان الطمر يخفي المشكلة والحرق ينهي المادة، وغاب عنهم جميعهم، أن المعالجة لا تكون لا في الطمر ولا في الحرق.

العلم يفرض وسائل خاصة لدراسة الواقع، دون نقل أي شيء – ببغائياً - وإسقاطه علينا، فنحن ندرس أرقامنا ونبني على الشيء مقتضاه. في الخلاصة أن الجهل لا يبني الأوطان. والنظافة وحماية البيئة تتطلبان وزراء يعرفون ماذا يفعلون، وليس كما غالبية وزراء البيئة الذين دمروا البيئة عن معرفة أو عن جهل.
يجب الاعتراف بأن مركزية الحلول لمشاكل تخترعها المركزية ذاتها، لم تفلح يوماً، وبالتالي يجب الذهاب إلى حلول أكثر توزيعاً وتفنيداً وتصنيفاً. وهكذا تتراكم حلول الـ"ميكرو" فتحقق توجهات الـ"ماكرو"، فقط لا غير.
وكل ما عدا ذلك صار مفضوحاً، إذ لا يريد كثيرون الحلول بل يميلون إلى الصفقات، ولا شيء آخر...
النفايات نوعان لا ثالث لهما، العضوي الناتج من كل ما يؤكل، وغير العضوي وهو كل ما لا يتفاعل ولا يتحلل بسهولة، إنما يشكل مادة أولية في خط انتاج آخر، غير شكله الذي كان عليه خلال الاستخدام الأول.
وإذ ذاك فإن التخلص الحقيقي بطريقة علمية من تلك النفايات التي تؤذي البيئة يجب أن ينطلق من "معالجة" لم تحصل يوماً في لبنان بسبب مقاربة الملف من ناحية تجارية "بحتة" دون حماية البيئة القريبة أو البعيدة.
هكذا يبدو أن هناك مِن الناس مَن لا شعور لديهم ولا إحساس انسانياً، لأنهم يعيشون فقط، لكسب المال من دون أن يتحملوا أية مسؤولية في تصرفاتهم وتأثيرها على الآخرين أكان ضرراً بيئياً، أم قتلاً بطيئاً. فلا وجود للعدالة في معجمهم، ولا قانون ولا معايير، بل ولا ضمير. والمحاسبة مصطلح مجهول لديهم. فمَن يحمي البيئة؟
ونذكر آخرين مِمَن دمروا البيئة، منهم من كان في مواقع المسؤولية من وزراء البيئة وأعضاء في لجنة البيئة النيابية وموظفين - صغاراً وكباراً- الذين عن علم أو جهل، أدّوا خدمات لمشاريع غريبة عن المعالجة وأودوا بالبيئة إلى التهلكة. فمن قال إن تعيين وزير في موقع ما يعني أنه هو الأهل لهذه المهمة؟ ومن قال إن الاختصاص والعلم مُحترم؟
والنفايات، نعود للنفايات فهي غير مكلفة للمواطن، لأن هناك مزراباً من ذهب يسرّب المال من الصندوق البلدي المستقل غير المرئي والذي يتحكم بحساباته مجهولون لم يفصح أحد منهم يوماً عن طريقة الاحتساب وإبراز كشوفات المداخيل والمصاريف، ويبقى القائمون على النفايات على مواقفهم المعارضة لتحرير المعالجة والانتهاء من الصفقات بشأنها. بل يصرّون على مركزية معينة للحفاظ على مكتسبات مالية كبيرة للبعض، لكي يجني المال بدون تعب، ولو أنهم بهذه الطرق المخالفة للقواعد البيئية يوصلون الناس إلى الأمراض المزمنة، وبذلك يتحول القتل ليصبح جرماً متعمّداً.
أما عند مرجعية المحاسبة، فمن قال إن مجلس النواب يحاسب أو يعرف أن يحاسب (علمياً) عن الخطأ - ومن يتجرأ أو يستطيع من كل الذين مسكوا ملف النفايات أن يجيب بأنه عالج النفايات، إلا أننا نقول إنهم تهربوا كل مرة من المعالجة بطمرها بأتربة لإخفاء الجهل المتحكم بالعقول التي لا تقبل العلم والنور سبيلاً... فمن قال لهم إنه يحق لهم رمي النفايات في البحر وإلحاقها بالكثير من الأتربة والصخور التي يشوه استخراجها من الجبال قمماً خلقها الله للتمتع وليس للجنوح إلى التجارة بكل شيء... وهنا في البحر تكمن الجريمة الأكبر، فالبحر هو حق عام لكل اللبنايين، ولكل مواطن الحق بالسير على طول الشاطئ من الحدود الشمالية إلى الجنوبية بدون معوقات مصطنعة، ما خلا ما سمحت به الطبيعة فقط...
وفي الختام لا بد من التشديد على ضرورة احترام البيئة الثقافية التي يجب الرجوع إليها وتعزيز التربية المدنية في المدارس والوزارات والحكومة ومجلس النواب، وحذف المواضيع المؤذية لكل إنسان منهم وتنقية ذهنه كما يجب، وتقوية مشاعر المواطنية لكي نتحول إلى شعب متحضر من جديد فتأتي نتائج أفعالنا مرآة تعكس هذه الحقيقة المرغوبة والمطلوبة بشدة... من له أذنان للسمع فليسمع..!!! فلا لزوم لمكبات نفايات ومناظرها التي تلوث البصر وكل حواسّ الإنسان الأخرى، ولا لمطامر وآثارها القاتلة، ولا للمحارق – وهم يريدون أن يحرقوا المياه التي تشكل النسبة الأكبر في نفاياتنا ويحولون الصلب منها إلى الرماد الأكثر خطورة. نحن بحاجة لكل تلك المواد السائل منها والصلب، وتدويرها في ظروف اقتصادية صار أكثر من حاجة، عبر استثمار كل ما لدينا من معرفة وعلم وذكاء طبيعي قبل التفشيخ بالذكاء الاصطناعي المجرم المستقبلي... فلن يُرحم أحد عن جرم تدمير البيئة تحت عناوين الحضارة الزائفة. بكل بساطة التزموا بالسلم الهرمي بكل محتوياته الحقيقية ونفذوا بنوده بدقة... كل الحلول البيئية السليمة متوفرة، وتحترم المعايير الضابطة مالياً، والمفيدة اقتصادياً، والتي تلتزم المبادئ المعمول بها في العلم البيئي بدءاً من تخفيف الإنتاج، مروراً بإعادة الاستعمال، والتدوير وصولاً إلى فرض شروط ملزمة على كل من ينتج ويتاجر ويتداول بالمواد من أي مصدر أتت وإلى أية استخدامات اتجهت... كفانا قتلاً. فلنبرهن أننا شعب يحمل حضارة... ببيئة تتكلم.
نبض