منبر 18-09-2025 | 04:00

الطلاق الصامت: نزيف بطيء للحب

الزواج ليس مجرد عقد قانوني ولا صورة اجتماعية تُحافظ على شكل العائلة، إنه رابطة إنسانية تحتاج إلى حياة نابضة بالاحترام والحب. حين يفقد الزواج روحه، يصبح اتخاذ قرار حاسم أرحم بكثير...
الطلاق الصامت: نزيف بطيء للحب
عالم النفس الشهير جون غوتمن
Smaller Bigger

حبيب خلف*

 

في كثير من البيوت، يظنّ الجيران والأقارب أنّ كل شيء يسير على ما يرام: الزوجان يعيشان معاً، الأطفال يلعبون، ولا شجارات تُسمع خلف الجدران. وسائل التواصل الاجتماعي تضج بالصور العائلية، والتعليقات المتبادلة، لكن الحقيقة قد تكون أكثر قسوة مما يبدو. فهناك بيوت تعيش فيها أرواح منفصلة تماماً، يلتقي أصحابها على مائدة واحدة بأجسادهم فقط، بينما قلوبهم وعقولهم رحلت منذ زمن. هذا ما يُعرف بالطلاق الصامت: زواج قائم قانونياً واجتماعياً، لكنه من الداخل أشبه ببيت مهجور.

 

يصف عالم النفس الشهير جون غوتمن هذا الوضع بأنه "نزيف بطيء للحب"، حيث يفقد الطرفان القدرة على الكلام الحقيقي، فلا شجار ولا مصالحة، فقط صمت يلتهم الأيام، وينهك الأرواح، يفتك كمرض عضال ويفكك أواصر العائلة. الزوج أو الزوجة في هذه الحالة قد يشعران بالوحدة رغم وجود الآخر، وكأنهما عابرا سبيل تحت سقف واحد. هذا الفراغ العاطفي لا يقتل المشاعر فقط، بل يسرق معنى الحياة اليومية: وجبة الطعام تصبح واجباً، الأعياد والمناسبات مجرد طقوس وصور لضخها على وسائل التواصل، والنوم إلى جانب شخص لا تشعر به، وإن حصل ذلك، يصبح عبئاً نفسياً، ويحفر أثراً عاطفياً يُنهك الأرواح.

 

تعبيرية
تعبيرية

 

كثيرون يظنون أنّ غياب الشجارات يعني برداً وسلاماً، لكن كما تقول المعالجة الأسرية إستير بيريل: "أحياناً يكون الهدوء أكثر إيذاءً من الصراخ، لأنه يعني أنّ أحد الطرفين استسلم تماماً". هذا الاستسلام يحوّل البيت إلى فضاء جامد، وتصبح العلاقة أشبه بشراكة سكن، لا شراكة حياة.

وهنا يصبح الأبناء كأنهم يسكنون بين بيتين باردين، لا يشعران بالعاطفة رغم القبلات والغمرات والهدايا. فالأطفال في هذه البيئة ليسوا محميين كما يتخيّل بعض الأهالي. الدراسات النفسية تُظهر أنّ الصمت المشحون بالتوتر يترك آثاراً أعمق من الخلافات العلنية. الطفل قد لا يسمع مشادة كلامية، لكنه يشعر بنظرات باردة، بأبوين لا يتكلمان معاً إلا نادراً، لا يضحكان معاً، ولربما لا ينامان في نفس الغرفة، فيعيش بأجواء خانقة تزرع فيه القلق وانعدام الأمان. هذه الخبرات المبكرة قد تترجم لاحقاً إلى صعوبة في بناء علاقات مستقرة أو خوف من الارتباط، أو هروب من المشاكل اليومية ودفنها بصمت كما يفعل الوالدان.

كما أنّ الصمت قد يربك الطفل أخلاقياً: فهو يرى نموذجاً لعلاقة بلا حب ويُقال له إنها "زواج". وهنا يصبح عرضة للاعتقاد أن الحب غير ضروري أو أن الاستسلام للوضع القائم هو الحل الطبيعي لأي أزمة، ما يعيد إنتاج المشكلة في حياته الزوجية المستقبلية.

الأضرار هنا لا تتوقف عند العاطفة، بل لها انعكاسات صحية واجتماعية فالتوتر المكبوت يؤثر على الجسد: كالأرق، وفقدان الشهية أو الإفراط فيها، الصداع المزمن، وارتفاع ضغط الدم كلها أعراض شائعة. أما اجتماعياً، فقد ينقطع الزوجان تدريجياً عن الأصدقاء والعائلة تجنباً للشرح أو الإحراج، فيزداد الشعور بالعزلة والوحدة.

من الناحية القانونية، يبقى الزواج قائماً، ما يعني أنّ كل الحقوق والواجبات الزوجية – مثل النفقة، الإرث، والقرارات المصيرية للأسرة – تظل قائمة على الورق. في بعض الحالات، قد يستغل أحد الطرفين هذا الوضع لفرض سيطرته المالية أو القانونية، بينما يعيش فعلياً منفصلاً. القوانين، خاصة في أنظمة الأحوال الشخصية في لبنان، تختلف بحسب الطائفة أو المذهب، لكنها لا تعترف بالطلاق العاطفي كحالة قانونية؛ فالطلاق الرسمي أو بطلان الزواج، يتطلّب إجراءات قضائية ودينية محددة.

وفي هذا المقام، اللجوء إلى المحكمة، رغم قسوته، وضرورته أحياناً، يوفّر وضوحاً، فيحدّد حقوق الحضانة والحراسة والنفقة، ويحفظ حق المشاهدة والاصطحاب، ويحمي الممتلكات المشتركة. كما يمنح الطرفين اعترافاً اجتماعياً وقانونياً بوضعهما الجديد بدل أن يظلا عالقين في منطقة رمادية تُرهق الجميع.

ولكن لماذا الخوف من المواجهة؟ يُرجع علماء النفس هذا التردّد إلى مزيج من العوامل: الخوف من نظرة المجتمع، البعد المادي وخاصة إذا كانت الزوجة لا تعمل، القلق بشأن استقرار الأطفال، أو حتى الأمل الضئيل بعودة الأمور إلى سابق عهدها. لكن ترك الأمور معلّقة قد يحرم الزوجين من فرصة حقيقية للإصلاح أو بداية جديدة. وفي واقع الأمر، ليس الطلاق هو ما يدمّر الأسرة بقدر ما يدمّرها زواج ميّت يُصرّ أصحابه على الإبقاء عليه حيًاً ظاهرياً.

في هذه المرحلة أصبح الأمر بحاجة إلى قرار شجاع وإنساني، فالتعامل مع الطلاق الصامت يتطلّب مواجهة صادقة. بعض الأزواج ينجحون في إعادة إحياء علاقتهم عبر العلاج الأسري والنفسي أو التفاهم على إعادة بناء الثقة. وآخرون يدركون أن الاستمرار يعني مزيداً من الألم لهم ولأطفالهم، فيختارون اللجوء إلى المحكمة كخطوة نحو استقرار نفسي وعاطفي أفضل.

ولا مناص من القول، إن الزواج ليس مجرد عقد قانوني ولا صورة اجتماعية تُحافظ على شكل العائلة. إنه رابطة إنسانية تحتاج إلى حياة نابضة بالاحترام والحب. حين يفقد الزواج روحه، يصبح اتخاذ قرار حاسم – إصلاحاً كان أم انفصالاً – أرحم بكثير من حياة تقتل الجميع ببطء تحت ستار الصمت.

*دكتور في القانون الكنسي

-المقاربة الواردة لا تعكس بالضرورة رأي مجموعة "النهار" الإعلامية.


العلامات الدالة

الأكثر قراءة

العالم العربي 9/29/2025 5:14:00 PM
"نحن أمام مشروع ضخم بحجم الطموح وبحجم الإيمان بالطاقات"
تحقيقات 9/30/2025 4:06:00 PM
تقول سيدة فلسطينية في شهادتها: "كان عليّ مجاراته لأنني كنت خائفة"... قبل أن يُجبرها على ممارسة الجنس!
ثقافة 9/28/2025 10:01:00 PM
"كانت امرأة مذهلة وصديقة نادرة وذات أهمّية كبيرة في حياتي"
اقتصاد وأعمال 9/30/2025 9:12:00 AM
كيف أصبحت أسعار المحروقات في لبنان اليوم؟