نظرات في "سعيد تحسين بك: الأعمال الشعرية الكاملة"(12)
إبراهيم سمو - المانيا
تقاطعات...
إمارة و"إمارة بديلة": ما أشبه سعيد تحسين بـ"إبراهيم بن الأدهم"
لا شك في أن قصائد "الأعمال" ونصوصها المجاورة تكشف عن نزعات لهو ومجون، غير أنّ شخصية سعيد تحسين لا تنحصر في هذا البعد وحده، فقد تميّز الرجل، كما أُشير إليه، بتخلّيه المدرك عن النفوذ الموروث، وانجذابه إلى آفاق عرفانية داخلية غير مؤتلفة ـ ولو ظاهرياً ـ مع القوالب الصوفية المألوفة.
ولكون العزلة لم تفضِ لديه إلى قطيعة مع الموروث، بل استدرجته إلى حوار وتأمل، للمقتفي ان يتساءل: هل شكّلت عربدته وجهاً آخر لصوفيته المتحررة من الإرث؟ أم أنّ التوتر بين الانفلات والاعتزال كان تكاملاً داخلياً أعاد رسم علاقة الذات بالسلطة والامتلاك؟
وههنا قد يتماهى سعيد تحسين مع تجربة إبراهيم بن الأدهم، الذي تخلّى عن الإمارة طلباً للتطهر الروحي، ليغدو، كما تحسين، شاهداً على إمكان التقاء الفقد بالامتلاء، والتخلي بالاكتفاء. وإذا كان مسار "تحسين" أقرب إلى انسحاب هادئ يتخلله صخب رمزي، فإنه لا يمثل نفوراً من الأصل، بل سعياً الى تحرير الروح، حتى لحظات سُكره تظل محمولة على أشواق روحية مكثفة تتجاوز حدود الجسد والزمان.
سعيد تحسين، الذي اختار ـ كما تشهد سيرته وآثاره ـ أن يكسب نفسه لا إرثه، وأن ينصت لذلك الصوت الخفيّ الذي قاده إلى ذاته: إلى الكأس، والمرأة، والكلمة، والله، بطريقته الخاصة، من دون وصاية أو قيد، قد صاغ مذهباً قيمياً فريداً، أكثر اتساقاً مع تأملاته، وأقرب إلى صدى روحه المحرّرة.
وقد يرى المتأمل أن كلّا من سعيد تحسين وابن الأدهم شيّدا من كلمتهما وموقفهما وخلْوتهما وخيالهما وعشقهما الشفيف "إمارة بديلة"، لا تُفرض من فوق، بل تُبنى من الداخل. إمارة تعوّض عجرفة السلطة بإشراقٍ روحي، وتقاوم قهر الواقع بسموّ الحلم، سواء في "الشيخان" أو في "خراسان".
غير أن المفارقة الأشد دلالة تتبدّى هنا في لحظات الإعسار المالي التي ألمّت بكلا الأميرين، إذ لم تكن الفاقة، وهما في مواجهتها، مجرّد محنة مادية، بل بدت كمرآة باطنية تختبر قدرة النفس على السمو في ذروة انكشافها.
وإلّا، فكيف نُفسِّر تلقّي ابن الأدهم، في أوج عوزه، دعماً مفاجئاً من والدته التي لحقته ـ بحسب الرواية الإيزيدية ـ محمَّلة بذهب وفضة؟ وكيف نُفسر تقهقر عزلة سعيد تحسين، وقد بلغ أقصى درجات البؤس في حلب، بتدخل طارئ من المحامي شامو خلو، لاح كنفحة عون مباغتة من حيث لا يُرتجى؟
أفلا يجوز، والحال هذه، أن تُقرأ تلك اللحظات ـ على الأقل في بُعدها الصوفي ـ بوصفها علامات خفيّة تُظهر أن الاغتراب الروحي لا ينطوي بالضرورة على انقطاع، بل ربما يؤسس لصيغة مغايرة من التكيّف العميق مع العالم؟ أوليس من الممكن أن يكون الورع، في جوهره، لا إنكاراً للامتلاك، بل إعادة ترسيم للعلاقة معه، على نحوٍ أكثر حرية ونقاء؟
وبعد كل ذلك، ورغم تباين الأزمنة والأحوال، تتكشّف بين ثنائيات الرحيل والعودة تشابهات مثقلة بدلالات متناقضة تثير القلق وتربك السائرين. فبينما هجر إبراهيم بن الأدهم خراسان قاصداً لالش، انطلق سعيد تحسين من لالش، في ما يشبه رحلة عكسية، صوب "إيزيدخان" )جغرافيا توزع الايزيديين( متنقلاً بين قرى عامودا، الحسكة، رأس العين، عفرين، حلب، وربما أيضاً شنكال والشيخان، ثم عاد في نهاية المطاف إلى نقطة البدء: لالش. فهل كانت الرحلة الدائرية بحثاً عن توازن مستحيل بين حركة الجغرافيا وثبات الهوية؟
وإذا كان ابن الأدهم قد دُفن ـ بحسب روايات كثيرة ـ في جبلة السورية، فهل ترك ـ بحسب المخيال الإيزيدي الشفهي ـ أثراً رمزياً أو مقاماً يُنسب إليه في لالش أو غيرها من العتبات الإيزيدية المقدسة؟ وفي سياق موازٍ، لا يثير دفن سعيد تحسين في حرم لالش التباساً أو اعتراضاً، لكن إشراف "عائلة الإمارة" على مراسمه يثير تساؤلاً: هل دُفن وفق طقوس تليق برجل متعفف، كما ابن الأدهم، أم فُرضت على رفاته "تشريفات" و"بروتوكولات إماراتية" ظلّ حال حياته ينأى عنها ويترفّع عن مظاهرها؟
تنبع أهمية هذا التساؤل من حقيقة أن كليهما لم تُصغ حكايته من خيوط الأبهة والترف، بل من ظلال الزهد، أو على الأقل من الانفصال العاقل عن بريق السلطة.
ويبقى السؤال الأهم معلقاً: هل ستتخذ الذاكرة الإيزيدية من سيرة سعيد تحسين أيقونة روحية كما فعلت مع ابن الأدهم؟ إن التاريخ، وحده، هو من سيحسم الجواب.
على كل حال، فإن سيرة سعيد تحسين، بما تزخر به من تناقضات مدهشة وتساؤلات عصية على الحسم، ليست مجرد سيرة ذاتية، بل هي نسيج درامي مكثف، يليق بأن يُجسَّد سينمائياً، تلفزيونياً، أو حتى أن يُستعاد سردياً، لما تنطوي عليه من صراع إنساني وجودي يختزل مأساة أمير خانه قدره، فخسر الايزيديون مراهناتهم باعتباره الابن البكر عليه أن يكون أميرهم، وجعله يدفع ثمن اختياره الحر، حين قرر أن يخوض حياته حريته انسانيته بلا تعقيد او تكلف او مواربة، وأن يدير قلقه شعرياً، متخذاً من الكلمة مملكته البديلة، ومن التمرد تاجاً غير مرئي، يضعه على رأسه كلما اغراه قدره ان يثور على الأقدار والقيود.
نبض