نظرات في "سعيد تحسين بك: الأعمال الشعرية الكاملة"(11)
إبراهيم سمو - المانيا
تقاطعات...
بين سعيد تحسين وتولستوي ذات محررة او اخلال بمألوف:
في سيرة كلٍّ من سعيد تحسين وتولستوي، تبرز لحظة فارقة لم تكن مجرّد رفض للامتثال، بل إعادة تعريف للذات خارج النمط الموروث. فكلا الرجلين وُلد في قلب الامتياز، وتربّى تحت سقف السلطة الاجتماعية والثقافية، لكنه اختار أن يخرق هذا السقف بدلا من الالتزام بالإقامة تحته. لم يكن تمرّدهما موقفاً عابراً، بل بنية داخلية واشتغال دائم على التحرّر من "المفروض"، سواء أتى من سلالة، أو من مؤسسة، أو من اسم العائلة، أو من قوالب المجتمع.
سعيد تحسين، سليل "الإمارة الإيزيدية"، لم يرَ في لقبه امتداداً لهويته، بل غربةً عنها. تمرّده لم يكن رفضاً للسلطة الأبوية فحسب، بل سعياً إلى بناء هوية حرّة لا تخضع للتوريث. اختار "الكلمة" بدلاً من "العرش"، و"القصيدة" بدلاً من "البروتوكول"، وأنشأ خطاباً شعرياً، أو بالأحرى إنسانياً، يقوّض "المنظومة" التي نشأ فيها، جسداً وروحاً وقيماً.
أما تولستوي، فتمرّد من داخل القصر، رافضاً رفاهيةً بلا تعب، وثراءً بلا معنى، وانكبّ من ثمّ على حياة البسطاء والمقهورين، ليس بدافعٍ رومانسي، بل تعبيراً عن "غربة وجودية" عن الطبقة التي وُلد في كنفها.
وكما أعرضَ سعيد تحسين عن أن يُنصَّب أميراً، تخلّى تولستوي كذلك عن لقبه النبيل. لم يتماهَ أيٌّ منهما مع الامتياز، بل آثرا التجرّد سبيلاً للخلاص، وخاضا معركتهما ليس سعياً إلى مكسب شخصي، وإنما صراعاً ضد بنى تعيد إنتاج الامتثال: العائلة بصفتها أولى مؤسسات الضبط، والمجتمع باعتباره سلطة معنوية.
عاش كلٌّ منهما توتراً بين الرغبة في القبول، والحاجة إلى الانشقاق. تحرّر "تحسين" من مصير مرسوم سلفاً، غير مبالٍ بعواقب الاشتباك مع عائلته، كما أجّج تولستوي خلافاً داخلياً مع أسرته التي لم تعد تشاركه رؤاه، فانفصل عنها نفسياً قبل أن ينفصل جسدياً.
هدم سعيد تحسين صنمية "الموروث" مدفوعاً بشغف وقّاد الى الحرية، متجاهلاً "الأحكام الجاهزة" التي قد تلاحق مَن هم في موقعه من أصحاب الامتياز واللقب. وكذلك انقلب تولستوي على طبقته، والكنيسة، والحرب، والملكية، بل حتى على أدبه القديم، متنصلاً من رواياته الأولى كما ينتفض الإنسان من ماضٍ لم يعد يمثّله.
لم يكتفِ أيٌّ منهما بالتنظير، بل تحوّلت حياتهما إلى "وثيقة احتجاج"، تجسّدت في "سجلٍّ يومي" حافل بالتوترات والمواجهات. جعل سعيد تحسين من الشعر وطناً بديلاً، فيما اتخذ تولستوي من الكتابة الروائية خلاصاً. الأول رأى في "العشق"، وربما في "الصوفية" طريقاً إلى الذات، بينما تمذهب الآخر بـ"التواضع" و"كسر الأنا"، سعياً إلى "اندماج روحي" جديد.
ورغم اختلاف "المسار" و"الأسلوب"، و"الزمان" و"المكان" و"الظروف"، تلتقي روحهما عند مفترقٍ واحد: الانفصال عن القيد، والسعي إلى حياة صادقة غير مفروضة. ويبدو أن كلاهما خرج عن "السياق" ليدخل في "الجوهر"، وأن تمرّدهما لم يكن نفياً للواقع، بقدر ما كان بحثاً عن معنى لا تمنحه السلطة، ولا تشرّعه العائلة، ولا تصنعه الوجاهة.
هكذا، لم يكن تمرّد سعيد تحسين وتولستوي مجرّد شغب رمزي، بل مشروع بناء مضاد لمجتمع بديل، لقيم جديدة، ولحياة تُعاش كما ينبغي، لا كما يُراد لها.
نبض