العشائر السورية: قوة فاعلة أم وقود لصراعات الآخرين؟

منبر 20-08-2025 | 17:27

العشائر السورية: قوة فاعلة أم وقود لصراعات الآخرين؟

العشائر، إذا ما وعَت خطورة أن تكون مجرد وقود، واستطاعت أن تتحول إلى كيان منظم له رؤية سياسية واقتصادية، يمكن أن تصبح قوة فاعلة قادرة على فرض نفسها...
العشائر السورية: قوة فاعلة أم وقود لصراعات الآخرين؟
تداخل بين الاستقلالية والارتباط. (أ ف ب)
Smaller Bigger

إسماعيل الجويم*

 

منذ اندلاع الثورة السورية شكّلت العشائر العربية في الشرق والشمال الشرقي عنصراً محورياً في المعادلة الميدانية والسياسية، بحكم ثقلها الديمغرافي والاجتماعي. ومع ذلك، ظلّت مكانتها تتأرجح بين كونها لاعباً رئيسياً قادراً على تغيير التوازنات، وبين كونها مجرد أداة في أيدي القوى المتنافسة. هذا التناقض يفتح الباب واسعاً أمام التساؤل: هل يمكن للعشائر أن تكون قوة فاعلة ترسم ملامح المستقبل، أم أنها ستظل وقوداً لصراعات لا تملك قرارها؟

تشهد الساحة السورية اليوم مؤشرات على بروز صراع في الشرق والشمال الشرقي، حيث تتقاطع مصالح القوى الإقليمية والدولية مع التركيبة القبلية الهشّة في تلك المنطقة. فالعشائر العربية، التي تمتلك ثقلاً اجتماعياً وعسكرياً معتبراً، لم تعرف يوماً استقراراً في تحالفاتها؛ إذ انتقلت مراراً من الاصطفاف مع النظام السوري إلى التعاون مع إيران وروسيا، ثم مالت في فترات معينة إلى تركيا، ولم تتردد بعض العشائر في الانضمام إلى صفوف قوات سوريا الديموقراطية. هذا التقلّب المزمن يعكس طبيعة براغماتية تحكمها اعتبارات المصلحة أكثر من الولاء العقائدي أو السياسي وحتى الديني، وهو ما يجعلها أداة سهلة في يد القوى المتنافسة.

لكن المشكلة لا تكمن فقط في تبدّل الولاءات، بل أيضاً في الانقسامات الداخلية نفسها. فالعشيرة كثيراً ما تحكمها العصبية القبلية، ويتفرد شيوخها بالقرار، بحيث يستطيع شيخ واحد أن يقود مئات الآلاف من أبناء عشيرته إلى موقف عسكري أو سياسي لا يعكس بالضرورة توجّهات القاعدة الشعبية. هذا التفرد في القرار يجعل العشائر عرضة للاستغلال من الخارج، ويضاعف هشاشتها ككتلة اجتماعية.

إلى جانب العامل القبلي، يبرز البُعد الاقتصادي كعنصر أساسي في معادلة الصراع. فمناطق انتشار العشائر، خصوصاً دير الزور والحسكة والرقة، تحتضن ثروات استراتيجية من نفط وغاز وزراعة. هذه الموارد تمنح العشائر قوة محتملة تجعلها أكثر إغراءً للأطراف المتنافسة، لكنها في الوقت نفسه تجعلها ساحة مفتوحة للتجاذبات، حيث يسعى كل فاعل إقليمي أو دولي إلى السيطرة عليها عبر استمالة بعض شيوخ العشائر أو تسليح مجموعات محلية.

...واشنطن قد توظف العشائر كورقة ضغط في المستقبل: إما لابتزاز "قسد" (قوات سوريا الديموقراطية) وضبط نفوذها، أو لموازنة تركيا في الشرق السوري. وبالتالي، قد تجد العشائر نفسها في لعبة معقدة تتحول فيها إلى ورقة مساومة بين القوى الكبرى.

...ومن المهم الإشارة إلى أن علاقة النظام الجديد في سوريا بالعشائر ليست خطاً واحداً، بل تقوم على مزيج من الاستقلالية والارتباط. ففي بعض الحالات، كما جرى في السويداء مؤخراً، أظهرت العشائر قدرتها على الانفراد بالقرار والتحرك ميدانياً لنصرة البدو بعد انسحاب قوات النظام، ما عكس رغبتها في لعب دور مستقل. لكن التجربة نفسها أثبتت أن قرار النظام يظل نافذاً، إذ ما إن قرر وقف إطلاق النار حتى التزمت العشائر به دون تردد. هذا التداخل بين الاستقلالية والارتباط يمنح العشائر وزناً خاصاً، لكنه في الوقت نفسه يرسّخ قابليتها لأن تكون تحت أدارة النظام بالمجمل، وقوة مستقلة عندما تسمح الظروف.

وإذا قارنا هذا المشهد مع تجارب سابقة في الساحل والجنوب، نلحظ اختلافاً مهماً. ففي تلك المناطق، كانت خطوط التماس الطائفية والمناطقية واضحة، ما جعل الصراعات بين مكونات متباينة. أما في الشرق والشمال الشرقي، فإن الاحتمال الأكبر أن يكون الصراع داخل البيت السني نفسه. وهنا تكمن الخطورة: فالنزاعات الداخلية تأخذ طابعاً صفرياً لا يفتح المجال لتسويات سهلة، بل ينتهي غالباً باستنزاف متبادل ومذابح جماعية.

في المحصلة، تبدو أي مواجهة جديدة في الشرق والشمال الشرقي أكثر من مجرد جولة عسكرية عابرة؛ إنها نقطة انعطاف جديدة في مسار الأزمة السورية. فالعشائر ستجد نفسها أمام خيارات كلها محفوفة بالمخاطر: إما الاصطفاف مع "قسد"، أو الانجرار وراء قوى أخرى، وفي كل الأحوال تكون الخسائر على حسابها. والنتيجة الأوضح أن العرب السنة، الذين يشكلون الكتلة الأكبر عدداً والأقل امتلاكاً للأدوات المستقلة، سيكونون الخاسر الأكبر. وحدها العشائر، إذا ما وعَت خطورة أن تكون مجرد وقود، واستطاعت أن تتحول إلى كيان منظم له رؤية سياسية واقتصادية، يمكن أن تصبح قوة فاعلة قادرة على فرض نفسها، لا مجرد ورقة بيد الآخرين.

*المقاربة الواردة تعبر عن رأي كاتبها ولا تعكس بالضرورة رأي مجموعة "النهار" الإعلامية.
 

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 11/4/2025 6:56:00 PM
شقيق الضحية: "كان زوجها يمسك دبوسا ويغزها في فمها ولسانها كي لا تتمكن من تناول الطعام".
ثقافة 11/2/2025 10:46:00 AM
"والدي هو السبب في اكتشاف المقبرة، وكان عمره وقتها 12 عاماً فقط سنة 1922."
لبنان 11/3/2025 11:23:00 PM
الفيديو أثار ضجة وغضباً بين الناشطين، حيث اعتبر كثيرون أن استخدام الهواتف والإضاءة الساطعة داخل هذا المعلم السياحي يؤثر على السياح هناك.
لبنان 11/4/2025 8:47:00 AM
دعت هيئة قضاء جبيل القوى الأمنية المختصة إلى التحرّك الفوري واتخاذ الإجراءات اللازمة لمحاسبة الفاعلين