علي شريعتي..صوت المثقفين وحلم الفقراء

محمد عبد الله فضل الله
لا يرحل الكبار عادة إلا ويتركون وراءهم بصمات لا تمحى، يغوصون في عمق الفكر ليستخرجوا منه ما يسدون به النهم المعرفي لمقارعة هول الوجود واحتوائه لا بل اتباع سياسة الهجوم الفكري عبر أدوات النقد التي تستعين بلحظات تحرر داخلية راقية تميز بها شريعتي الذي رفض التأطر والتبعية لأية جهة سياسية أو دينية.
في الذكرى الخمسين لرحيل المفكر علي شريعتي - المتولد في بيت متدين وإصلاحي معروف في مدينة مشهد - ما يزال حاضراً بقوة في ساحات الفكر والتحدي كونه شاهداً صارخاً في وجه تسطيح الوعي وتجهيل الناس لم تسقطه التعقيدات والتجارب، فبقي ثائراً يتقن وسائل الثورة وكأنه يشارك غيره من الثائرين كالأب الكولومبي الكاثوليكي الثائر كاميلو توريس وجع الاضطهاد والظلم كما حلم العدالة المفقودة.
آمن بالكلمة التي تهز الوجدان وتخاطب العقل وتحيلهما على إثارة كل سؤال محرّم ، فهي عنده تتجلى بأروع صورة كما هو ذاته قال عنها: "لا تستهِنْ بالكلمة، فهي كائن حي وحسَّاس وساحر".
اتصف بعزة نفس وصلابة موقف وبأسلوب بسيط في العيش كما في الكتابة التي تحولت معه إلى سلاح في وجه الهوان والظلم والاضطهاد.
منذ مقتبل عمره أقبل على القراءة ومنها قراءة نتاجات الفلسفة والتصوف متأثراً بشخصية رئيس الحكومة محمد مصدق الذي أمم النفط الإيراني وكان صاحب رؤية قومية والذي أطيح به عام 1953 بتخطيط ودعم من الولايات المتحدة وبريطانيا .
سجن علي شريعتي وهو في الرابعة والعشرين من عمره للمرة الأولى عام 1954. فقد اعتقل بسبب مشاركته في احتجاجات طالبية ضد انقلاب 1953 الذي أطاح برئيس الوزراء محمد مصدق.
قلما تجد ثائراً مصلحاً يفهم حقائق الدين وغاياته والتي لا تحيد عن ثورة متجددة بتجدد الروح وعن عدالة اجتماعية مفقودة تنشدها رسالات السماء لتقيم بالقسط أوزان الأرض التي تلاعب بها الفاسدون والظالمون والمترسمون برسم أهل السياسة والدين والذين تاجروا بمصير الناس وتشاركوا على إدامة همومهم.
قال علي شريعتي في كتابه «الحسين وارث آدم»: «وعلى العكس مما يتصوره المثقفون المتغربون البعيدون عن الواقع، فإن المثقف الواعي المتدين الذي يبحث عن آماله وطموحاته الإنسانية في إيمانه وعقائده ونصوص ثقافته الدينية يعيش وسط المجتمع المتدين أكثر غربة ووحدة؛ لأن عرض الدين بشكل واع يبعث على التحرك والتنوير يغيظ قبل كل شيء القوى الدينية الرسمية ويقحمها في مواجهة ضاربة وحرب عصيبة قاسية، فالدين التقليدي المسكن كما كان على طول خط التاريخ قاعدة مشتركة للاستعمار الأجنبي، والاستغلال الطبقي، والاستبداد السياسي، والاستحمار الفكري والعقلي، يتحصن فيه هؤلاء الأربعة متى داهمهم خطر الدين الاجتهادي الثوري وهو يدعو إلى رص الصفوف وتوحيد الموقف ضد العدو المشترك على رغم الاختلافات والمفارقات الموجودة بين أتباعه... يتحول هؤلاء الأقطاب يداً واحدة لقمعه وإبادته بلا هوادة...»، ويضيف شريعتي ممتعضاً من واقع الحال: «ثلاثة ينتظمها محور: فرعون وقارون وبلعم... فروع ثلاثة لسمسار واحد: القصر والدكان والمعبد، عاد كل واحد منهم يزاول عمله الأبدي: الاستبداد والاستغلال والاستحمار... عاد الثالوث... فمثل مصداقاً للآية: (وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين)، و(ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين). فإن رأينا أنه لا عزة للمؤمنين بل هم أذلاء، والكفار أعلى منهم ومتفوقون عليهم شعوراً وثقافة واقتصاداً وحضارة وقوة عسكرية... ينبغي أن نؤمن أن إيماننا مبدول وأنهم أفهمونا الإسلام مقلوباً... مثلث السيف والذهب والمسبحة، الأول يشد رؤوس الخلق بالأغلال، والثاني يخلي جيوبهم... والثالث يعظه هامساً في أذنه هادئاً حنوناً بلهجة فياضة بحب الخير والحكمة، وبشكل فيه تعاطف: اصبر يا أخي، أخلِ باطنك من الطعام حتى ترى فيه نور المعرفة... دع الدنيا لأهلها يا أخي... وعمر منزل آخرتك... أي تدبير لك مع وجود التقدير... لقد أُعطي كل إنسان نصيبه من العطاء أو عدمه... كن شاكراً فالخير فيما وقع... الدنيا دار المحنة والذلة والفقر، وبالنسبة للمؤمن... اجعل جوعك رأس مال غفران ذنوبك !!!".
آمن بأن الفكرة أقوى سلاح يمكن أن يخيف الظالمين والجلادين هذه الفكرة التي ستصاحبه في مسيرته: «القوة الحقيقية ليست في عضلات الجلاد، بل في قوة الفكرة التي لا تقهر».
توجه إلى فرنسا في منحة دراسية العام 1959 والتقى في مقاهيها الشهيرة بكبار المفكرين والمثقفين على أمل أن يجد نفسه القلقة هناك وتستريح لكنه تفاجأ بأن الحرية ملاحقة في كل مكان حتى في بلاد الحقوق التي صدحت بها الثورة الفرنسية فقد تم ملاحقة شريعتي من قبل الشرطة الفرنسية لمشاركته في مسيرة طلابية دعماً للثورة الجزائرية مما حداه إلى أن يكتب لصديقه: "اليوم فهمت معنى التناقض: هم يرفعون شعار الحرية ويسحقونها تحت أحذيتهم!".
طريقته المختلفة في عرض الأفكار بشكل متحرر وعصري جعله في معرض التهجم من قبل رجال الدين وبعض المفكرين التقليديين.
دعا إلى التحرر من الهيمنة بكل أشكالها وبخاصة الهيمنة السياسية والحضارية وفضح ألاعيب الاستعمار ودعايته كما وفضح سياسات الطبقات الحاكمة والرأسمالية التي تقوم على تخدير الواقع ومصادرة الوعي عبر حصاره وتسطيحه للتحكم به معتبراً أن مصطلح الأمة هو أوسع بكثير من مصطلحات الطائفة والجماعة.
لقد خطَّ شريعتي بآلامه وآماله أروع تجربة بشرية شاهدة على الحق في وجه الباطل، تجربة عابقة بالخلود ختمها بعطر الشهادة وستبقى تأوهاته وصرخاته يتوالد منها ثورات رافضة لكل واقع مفروض ومرسوم للناس يصادر حقوقهم ويدوس على كراماتهم.