نظرات في "سعيد تحسين بك: الأعمال الشعرية الكاملة"(10)

منبر 12-08-2025 | 11:51

نظرات في "سعيد تحسين بك: الأعمال الشعرية الكاملة"(10)

الذات اللغوية وتحولات الصوت الشعري: في ضوء النقد المعاصر، يمكن قراءة شعر سعيد تحسين كتجسيد لـ"ذات لغوية" لا تقتصر على التعبير الوجداني، بل تُعيد إنتاج التجربة من خلال كينونة رمزية تنطق باسمها. فالنص لا ينقل شعوراً ذاتياً بقدر ما يخلق صوتاً يتجاوز الفردي نحو قلق جمعي ووجدان إنساني أشمل.
نظرات في "سعيد تحسين بك: الأعمال الشعرية الكاملة"(10)
تعبيرية (مواقع تواصل)
Smaller Bigger

إبراهيم سمو - المانيا 

 

 

 

 

الذات اللغوية وتحولات الصوت الشعري: 
في ضوء النقد المعاصر، يمكن قراءة شعر سعيد تحسين كتجسيد لـ"ذات لغوية" لا تقتصر على التعبير الوجداني، بل تُعيد إنتاج التجربة من خلال كينونة رمزية تنطق باسمها. فالنص لا ينقل شعوراً ذاتياً بقدر ما يخلق صوتاً يتجاوز الفردي نحو قلق جمعي ووجدان إنساني أشمل.
وفي هذا السياق، لا يظهر الضمير (أنا) أو (أنتِ) كأداة لغوية محايدة، بل كفعل إيقاعي ودلالي يُعيد تشكيل الذات بوصفها كياناً متشظياً، يتكشّف بالتكرار ويتوزّع عبر الأفعال الحسية، في تذبذب دائم بين الرغبة والانكسار، التماهي والرفض.
وهذا التشظي لا يدلّ على تفتّت، بل يضفي على النص بعداً درامياً كامناً، تتولّد منه أو عبره طاقة شعرية مشحونة، تجعل الذات تتكشّف بقدر ما تحتجب، وتتحرك بين القول والصمت، بين الحضور والامّحاء.
تفكيك البنية الانفعالية من التعبير إلى التوليد:
من منظور تفكيكي، لا يُقرأ الانفعال في نصوص "الأعمال" كحمولة جاهزة أو محتوى داخلي يتم تفريغه لغوياً، بل كبنية تُنتَج داخل الخطاب نفسه. فـ"اختيار المفردات"، و"التوتر النحوي"، و"تكرار الحقول الحسية"، لا يعبر فقط عن العاطفة، بل يصنعها. وعليه فهذه "البنية الانفعالية" وان بدت قابلة للتحليل، ومُنتَجة من تكرار "الصيغ الحسية" و"تموضع الجسد" داخل اللغة، لكنها في الوقت ذاته تُفلت من السيطرة التامة بسبب الغموض الذي تخلقه المفارقات والمجازات بخاصة وأن العاطفة هنا ليست مضموناً ثابتاً، بل أثر لغوي يتولد في تفاعل القارئ مع النص، ويعتمد على التوتر بين الشكل والمحتوى، وبين التقريرية والانزياح.
البعد السيميائي من العلامة إلى الأثر:
يمكن مقاربة البنية الشعرية لدى سعيد تحسين من منظور سيميائي، بوصفها شبكة دلالية تتجاوز الوظيفة الإشارية للغة، لتُنتج أثراً جمالياً وتأويلياً. فكل مفردة أو صورة أو إيقاع تُعدّ علامةً منفتحة على سلسلة من الإحالات الرمزية والثقافية والجسدية. تكرار ألفاظ مثل "الشفاه" و"النار" و...الخ على سبيل المثال، لا يقتصر على البعد الحسي، بل يتحوّل إلى رمز للشغف، والتحوّل، والاحتراق الداخلي، ما يمنح التجربة الشعرية كثافة دلالية تتجاوز المباشر نحو المركّب. 
وتصبح في هذا المنحى قصائد، "الأعمال" فضاءً دينامياً تتفاعل فيه العلامة مع مرجعها، والصوت مع معناه، فتتولّد شبكة تأويلية مرنة تُجسّد تموج الذات وسعيها إلى الانعتاق عبر اللغة.
رغم بعض التعثرات الأسلوبية، ينجح "تحسين" في خلق صور شعرية مكثفة، تستند إلى أدوات بلاغية كـ"الاستعارة"، و"الكناية"، و"الطباق"، و"الجناس"، التي تسهم في توسيع الحقل الدلالي، وتعميق البنية الرمزية للنص، ليبدو في ظاهره بسيطاً، وفي جوهره بالغ الثراء.
الاستعارة بوصفها تقنية انفعالية:
تُعدّ الاستعارة من أبرز الأدوات البلاغية التي يستخدمها شاعرنا في أعماله الشعرية لتوصيل انفعالاته الداخلية، إذ تستند إلى تجارب وجدانية وجسدية مباشرة. فالاستعارات في نصوصه تنبثق من الإحساس الجسدي والوجدان الحي، كما في قوله: "عطر أنفاسك يوقظ غابات بركانية" (ص.223)، و"حين تهمسين... تتهشم جدراني" (ص. 148)، ما يجعل اللغة نابضة بالحياة ومشحونة بالانفعال، وتخلق توازناً بين البُعد الحسي والتجربة النفسية.
وهكذا، لا تُستخدم الاستعارة في شعره كزينة بلاغية سطحية ـ كما هو الحال لدى كثير من "أخواتها" من أدوات البيان ـ بل تُوظّف كأداة فاعلة في بناء المعنى وتعميقه.
المفارقة والتوتر الدلالي:
تلعب المفارقة في نصوصه دوراً مركزياً في تفجير المعنى وإعادة تشكيله، إذ تتصادم الأفكار والمشاعر داخل القصيدة. لكن للقارئ أن يأخذ أحياناً على بعض مفارقات سعيد تحسين جنوحها إلى المباشرة، التي تقلل من تعقيدها الدلالي وقابليتها للتأويل، ويفقدها تالياً عنصر الغموض الذي يثري التجربة القرائية ويوسع أفق المعنى.
البلاغة الانفعالية والتكرار:
يعتمد مهندس "الاعمال" على التكرار كأسلوب بلاغي للتعبير عن إلحاح شعوري معين، ما يُسهم في خلق حالة من التوتر بين التعبير الصريح والمباشر وبين البُعد الشعوري المكثف. إلا أن الإفراط في التكرار قد يولد  لدى المتلقي إحساسا بالرتابة والجمود الإيقاعي، ويقلل من ثم من فاعلية النص وموسيقاه الداخلية.
الإيقاع الداخلي والبنية الموسيقية:
 يعتمد سعيد تحسين في نثره الشعري هذا على إيقاع داخلي نابع من "التكرار الصوتي" و"التوازن النغمي" داخل الجملة، مستغنياً بذلك عن الأوزان العروضية التقليدية، فتشتعل نصوصه بطاقة موسيقية ذاتية تعزز المشهد الوجداني وتثري التجربة من وحي انتفاضات دواخله. 
التقطيع البصري والإيقاع البصري:
تلعب طريقة توزيع "الأسطر" و"التوقفات" و"الفراغات" على صفحة النص دوراً في الإيقاع البصري، حيث تحاول خلق "توقّعات" و"انقطاعات" تتماشى مع حركة النص الداخلية. غير أن هذا الأسلوب قد يظهر أحياناً شكلياً، لاسيما إذا لم يصحبه إيقاع موسيقي داخلي يدعم التجربة القرائية.
مآخذ إيقاعية:
تعاني بعض نصوص سعيد تحسين من مشكلات في انتظام "البناء الإيقاعي"، إذ يتفاوت النفس الإيقاعي بشكل قد يربك القارئ ويضعف من تماسك النص. كما أن غياب التنوع في الإيقاع داخل القصيدة الواحدة قد يؤدي إلى شعور بالرتابة، مما يؤثر سلباً على قدرة النص في استدامة الاهتمام.

 

 

 

تأمل ليس بخاتم لكن... ختامي: 
تكشف تجربة سعيد تحسين عن تماهٍ عضوي بين اللغة والانفعال، إذ تنسجم "البنية النحوية" و"الاشتقاق الصرفي" مع "الحس الشعري" لتشكّل نصّاً وجدانيّاً نابضاً. غير أن محدودية "التنويع الأسلوبي" وضعف "التشكيل البنائي" يضعان هذه التجربة أمام "حاجز فني" يصعب تجاوزه، ويحولان دون إحداث تجدد أو توسيع في مداها التعبيري.
وبعد رحيل الشاعر، تغدو نصوصه بمثابة أرشيف وجداني وثقافي يستدعي مزيداً من القراءة والتأويل.
ولو كان سعيد تحسين بيننا، لربما شكّلت هذه الدراسة المتواضعة، وسواها، نداءً ناعماً يحثّه على تنويع أساليبه الزمنية واللغوية لإثراء البنية الدرامية، وتوسيع حقوله المعجمية لابتكار صور ورموز أكثر تعددية، وتعميق تحليله الإيقاعي لتعزيز الأثر السمعي، وتكثيف أدوات الترميز لخلق طبقات دلالية متعددة، وتفعيل التعدد الصوتي لإغناء الحوار الداخلي وتوسيع أفق النص. 

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

دوليات 12/14/2025 3:19:00 PM
تحوّل صاحب متجر الفواكه أحمد الأحمد إلى "بطل بوندي" بعدما انتزع سلاح أحد المسلحين خلال هجوم على احتفال الحانوكا في شاطئ بوندي بسيدني، منقذًا عشرات الأرواح قبل أن يُصاب ويُنقل إلى المستشفى.
دوليات 12/15/2025 1:50:00 PM
يقضي الأطفال ووالدتهم معظم وقتهم في التسوق، ويملأون منزلهم الروسي الجديد بالسلع الفاخرة، بحسب مصدر قريب من العائلة.
دوليات 12/15/2025 2:38:00 PM
تحدّثت تقارير عن صلة محتملة لإيران واستخباراتها بهجوم سيدني.
العالم 12/14/2025 11:00:00 PM
الأب لقي حتفه بينما يرقد الابن في المستشفى.