منبر 06-08-2025 | 10:49

الجلد والإشارة: سريالية النعومة والمقاومة السيبرناتيكية في FEELERS

في زمنٍ تتقاطع فيه السلطة مع البنية التحتية الرقمية، تُستهدف فيه الحساسيّات الإنسانية بعدسات المراقبة والتشويش السيبرناتيكي، تقدّم الفنانة البصرية كريستين كتّاني تجربتها الفنية FEELERS  كبيانٍ بصريٍّ مشحونٍ بالمقاومة الهادئة.
الجلد والإشارة: سريالية النعومة والمقاومة السيبرناتيكية في  FEELERS
تعبيرية (مواقع تواصل)
Smaller Bigger

ريمون ابو حيدر

 

 

في زمنٍ تتقاطع فيه السلطة مع البنية التحتية الرقمية، تُستهدف فيه الحساسيّات الإنسانية بعدسات المراقبة والتشويش السيبرناتيكي، تقدّم الفنانة البصرية كريستين كتّاني تجربتها الفنية FEELERS  كبيانٍ بصريٍّ مشحونٍ بالمقاومة الهادئة.
من نيشيمي في صقلية، البلدة المحاصرة بمحطات الرادار العسكرية الأميركية (MUOS) إلى بيروت، تعيد كتّاني تموضع الجسد الطري في مواجهة هندسات العنف الكهرومغناطيسي. وقد جاءت إقامة الفنانة في نيشيمي بدعوة من مجموعة Cassata Drone  الفنية المستقلة التي تعمل على تعزيز التبادل الثقافي والفني في المنطقة، مما أضفى على العمل بعدًا سياسيًا وإنسانيًا يعكس التوتر بين المقاومة المحلية والقوة العسكرية، ضمن مساحة يختلط فيها الحضور بالغياب، والسطح بالعمق، في سياق جيوسياسي يتسم بالتشابك بين القوة العسكرية والتقنية الرقمية.
النعومة كتكتيك مقاوم: تأملات في الجسد المفتوح
هل النعومة هنا فعل مقاومة حقيقي؟ أم أنها مجرد واجهة أخرى للسلطة تتخفّى في رقةٍ مخادعة؟ في FEELERS، لا يُقدَّم الجسد ككيانٍ جامد، بل كفضاءٍ مفتوح يُعاد تشكيله باستمرار، على غرار مفهوم "الجسد بلا أعضاء"       (Body without Organs)   كما طرحه الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز.

 

 

 

لكن، هل يمكن لهذا الجسد المفتوح أن يكون حرًّا تمامًا؟ أم أنه محاصر داخل شبكةٍ غير مرئية من الوظائف والعلاقات التي تحكمه؟
هنا، تتحول النعومة إلى تردّدٍ مزدوج: بين الألم والاحتواء، بين الصراخ الخافت والهمس المتسلّل. فهي ليست مجرد مقاومة هادئة، بل على تماسّ دائم مع أنظمة القوة الناعمة التي تخترق الصمت بالتشويش والتردّد. هذه الرقة ليست حالة ثابتة، بل طيف متحرّك من التوترات؛ تتقاطع فيه المقاومة والسيطرة، وتتلاشى فيه الحدود بين الجسد والآلة، وبين الذات والآخر.
بين الطبيعة والهندسة العسكرية
نحن هنا لسنا أمام سردٍ أو كتابة سيناريو تقليدي، بل إزاء فضاءٍ بصريٍّ يتشابك فيه الحضور والغياب، الطبيعة والهندسة، الرقة والصلابة.
أشكال القواقع، طبقاتها، السطح الحلزوني، الغيوم، والأيدي، تتداخل مع الهوائيات الضخمة التي ترصد وتراقب؛ تداخلٌ يثير سؤالًا جوهريًا: هل تفصلنا الطبيعة عن هذه الهياكل العسكرية؟ أم أنها باتت جزءًا منها، تذوب في هندستها؟
بين الحركة والسكون، تتفكّك الحدود التقليدية، لتغدو الطبيعة ميدانًا للتفاوض، والهندسة مشهدًا ينبض بالتهديد والرقة في آنٍ واحد.
الجلد كأرض معركة كهرومغناطيسية
تحت الجلد، في هدوءٍ مريب، يدٌ تحتضن قواقع صغيرة؛ ليست فقط صورةً للحنان أو الهشاشة، بل رمزٌ للاحتكاك الدائم بين الجسد الطري وقوى لا تُرى.
برج الاتصالات لا يظهر كهيكلٍ جامد، بل كجسدٍ مشحونٍ بالطاقة، يشق الغيوم ويخترق الحواس، وينبعث منه طيفٌ كهرومغناطيسي يعيد تشكيل علاقة الإنسان بمحيطه.
تستقبل الهوائيات الإشارات، لكنها تكشف هشاشة القوقعة التي تحمي الجسد الطري؛ القوقعة التي ينخرها رشّ الملح.
ملحٌ لا يحفظ، بل يذيب، ينسج من الألم والغياب قصة احتكاكٍ مستمر، حيث تحاصر التقنية الطبيعة، وتذوب آليات الحماية في بحيرةٍ من الإشارات.
تموت القوقعة بصمت، لكن يبقى الألم رنينًا خفيًّا بين طبقات الجلد والهواء.
هل يصبح الجلد هنا مجرد شاشة تتلقّى إشارات السيادة؟ أم أنه سطح مقاومة يرفض الاستسلام؟
هذه الموجات ليست مجرّد تقنيات، بل أذرعٌ للسلطة تلامس الأعماق وتعيد تعريف الوجود.
الاستشعار كأداة مقاومة
تتفتّت اليد، ترتجف القواقع، وتثقل الغيوم في تآكلٍ بطيء تحت وطأة الإرسال. لا يمكن فصل هذه الإشارات عن مفاهيم "الاستعمار السيبرناتيكي"؛ أنظمة لا تغزو الأرض فحسب، بل تهيمن على الإدراك، وتعيد تشكيل الجغرافيا النفسية والجيو- سياسية للسكان.
بين الضباب البصري، والصوت المتقطّع، والإشارات الحمراء، تُتشكل مساحة مقاومة هشة، لكنها نابضة.
فهل الاستشعار هنا أداة مقاومة؟ أم هو في ذاته تكتيك هيمنةٍ جديدة؟
في هذا التوتّر تتراقص حدود المفهوم، ويعاد صوغ فكرة المقاومة في زمن التشويش.
التركيب النحتي: الصراع بين الحفظ والانحلال
إلى جانب الفيلم، يُعرض تركيبٌ نحتي يتكوّن من قواقع من مادة الرازين والملح، مصطفّة ككتلةٍ بيولوجيةٍ هجينة.
هذا المزيج المادي يوحي الصراع بين التجميد والتآكل، بين الحفظ الصناعي والانحلال الطبيعي.
الملح، المادة التي تحفظ وتؤلم في آنٍ واجد، يتحول إلى رمزٍ مزدوج للنجاة والانتهاك؛ تمامًا كالإشارات الكهرومغناطيسية التي لا تُرى، لكنها تترك أثرها على سطح الجسد.
الجغرافيا السياسية للجسد: من نيشيمي إلى بيروت
في أرض معلّقة بين همس الموجات ونبض الانفجار، حيث تذوب السيادة في الإشارة، تخلق الفنانة جسرًا بصريًا بين نيشيمي وبيروت، بين الطيف العسكري وذاكرة الحرب.
كلتاهما مدينتان تحت المراقبة، ومجتمعان يعيشان في قبضة الخفاء.
عالمنا المعاصر يشهد توسّعًا هائلًا في أنظمة المراقبة الرقمية، والسيطرة على الجسد والوعي عبر تكنولوجيا لا تُرى، لكنها تؤثّر بعمق على الفرد والمجتمع.
في هذا السياق، تصبح النعومة تكتيكًا سياسيًا دقيقًا، ومساحة مقاومة ضمن مسرحٍ سيبرناتيكي يتقاطع فيه الألم بالاستشعار، وتُكتب على سطح الجلد حكايات لا تُقال إلا بصمت.
قراءة مشهدية: دعوة للسؤال والإدراك والوعي
في افتتاح الفيلم، تطرح الفنانة السؤال Why are you here? بينما تظهر صورة سماءٍ زرقاء تتوسّطها غيمة بيضاء وعمود إرسال بالأحمر والأبيض.
تنتقل العدسة إلى يدٍ مغطاة بالقواقع وتهتزّ، ثم تنقلنا إلى مشهدية أخرى: أشجارٍ تتحرّك ببطء، محاولة ان تخفي خلفها صحون ساتلايت ضخمة.
يتكرّر السؤال ثلاث مرّات، كنداءٍ استبصاري يعيد توجيه المتلقّي.
لاحقًا، تظهر إشاراتٌ حمراء، ويدٌ مغطاة بالملح بتقنية تُقرّب عدسة الكاميرا من مسامات الكف.
يتكرّر السؤالWhat are you allergic to? ، ثم تتوالى مشاهد مقرّبة تُظهر بلورات ملح، حبيبات لزجة، وأقراصًا كريستالية، بين الحماية والتآكل.
يُختتم الفيلم بعبارة .Metabolize your feelings ؛ دعوة لتأويل المشاعر، لا كأحاسيس عابرة، بل كأثرٍ مادي نحتفظ به.
عرض وتكريم
حظي العمل بتقدير واسع، إذ عُرض في متحف الفن المعاصر في روما (MACRO) ، وحاز على جائزة "أفضل فيلم تجريبي قصير" في مهرجان الفيلم المتوسطي في كان (2018)، إضافة إلى Partner Prize Award من  
  I osrropia Homegallery  في ميلانو (2021). كما شارك في مهرجانات بارزة مثل Berlin Revolution Film Festival، Under_the_Radar في فيينا، ومهرجان مدريد الدولي للأفلام.
ويُعرض حاليًا في غاليري جانين ربيز ببيروت حتى 15 آب 2025، ضمن معرضٍ جماعي بعنوان La toile résonnante، يضم فنانين بارزين مثل عايدة سلّوم، هنيبعل سروجي، ألآن فاسويان، منار علي حسن، وبسام الجعيتاني، وغيرهم، في حوارٍ متقاطع مع FEELERS، بين الجسد، الأرض، والسيادة الخفية.
خاتمة: نحو أنثروبولوجيا ما بعد الإشارة
FEELERS  هو فيلم تجريبي، سيبرناتيكي وحسّي، يعيد التفكير في علاقة الجسد بالتقنية، ويطرح كيف يمكن للفن أن يكون وسيلة استشعار بديلة في عصر التشويش والسيطرة الرقمية.
لا يمنحنا يدًا تحمي، بل يدًا ترتجف، تحتضن الكائنات الرخوة وتفضح هشاشتها.
الفيلم لا يُشاهَد فقط، بل يُلمَس ويُدرَك عبر رطوبةٍ بصريةٍ تخترق الحواس.
في زمنٍ تهيمن فيه الرقابة الرقمية، يصبح الفنّ الحاسّة السادسة، الجهاز العصبي للمقاومة، والاستشعار الحرّ، خارج نطاق البثّ والتحكّم.
الخلاصة: لا يقدّم هذا العمل إجابات، بل يفتح مسامات الوعي لمساءلة العلاقة بين الجسد والسيادة، الحسّ والسلطة.
إنه ليس فيلمًا يُشاهَد، بل يُستشعَر حاسةٌ سادسة في زمن التشويش... دعوة إلى الإدراك الحيّ، لا المشاهدة فقط.

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

العالم العربي 9/29/2025 5:14:00 PM
"نحن أمام مشروع ضخم بحجم الطموح وبحجم الإيمان بالطاقات"
تحقيقات 9/30/2025 4:06:00 PM
تقول سيدة فلسطينية في شهادتها: "كان عليّ مجاراته لأنني كنت خائفة"... قبل أن يُجبرها على ممارسة الجنس!
ثقافة 9/28/2025 10:01:00 PM
"كانت امرأة مذهلة وصديقة نادرة وذات أهمّية كبيرة في حياتي"
اقتصاد وأعمال 9/30/2025 9:12:00 AM
كيف أصبحت أسعار المحروقات في لبنان اليوم؟