أينَ ستهربون من ردَّة الغضب؟

ريمي الحويك
عشيَّةَ الذكرى الخامسةِ لتفجيرِ مرفأ بيروت، ما زالت شمسُ العدالةِ تتأرجحُ على حافةِ الغياب، كأنّها تأبى الشروقَ فوقَ مدينةٍ أُغرِقتْ عمداً في الظلِّ.
في الذكرى الأولى، عمَّ الصمتُ كفاجعةٍ لا لغةَ لها، وفي الثانيةِ تفكَّكَ الحدثُ إلى تحليلاتٍ ووعودٍ هشّة، أمّا الثالثةُ، فابتلعتها هوَّةُ التخاذل، وجاءت الرابعةُ، تمشي على جثّةِ العدالة، تُلوّحُ برايةِ حربٍ اتُّخِذتْ ذريعةً ومهرباً.
تاريخُنا، للأسفِ، متمرّسٌ في تحويلِ الكوارثِ إلى طقوس ذاكرة، لا يتذكّرها المسؤولونَ إلّا في موسمِ حصاد المقاعد والمناصب، فتُرفع الحقيقة شعاراً قبل الانتخابات، ثم تُرفع من التداول حين تُلامس أجسادهم نعومة الكرسي، وتُدمن أياديهم دفءَ الامتيازات، ويُصاب الضميرُ بفقدانٍ طوعيٍّ للذاكرة، فتغدو الحقيقةُ عبئاً على الخُطَب، وفضيحةً في دفاتر المحاضر، وتظلّ ورقة يتيمة، تُنقل من درجٍ إلى آخر، وفي كلّ مرّة تُبتر بعض أطرافها، إلى أن تغدو هيكلاً عظميّاً في مدافن النفوذ.
بين مُهمِلٍ نسِيَ، وخائنٍ تواطأ، ومُتورِّطٍ تظاهرَ بالنسيان، ومقامرٍ بأرواحِ الناسِ كأنّها رقائقُ حظٍّ على طاولةِ سلطة، نعيشُ جزءاً خامساً من فيلم ظلمٍ لا يُعرضُ على الشاشة، بل يُعرضُ في القلوب، في الشوارع، في العيون، في الوشوم، في المقابرِ وفي الأرحام.
ومع كلّ هذا الظلام، عبرت لحظةٌ خافتة، كشمعةٍ تائهةٍ في مهبّ الجنون، حين صعد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أدراج منزل السيّدة فيروز، وقلّدها أرفع وسام فرنسي، وسام جوقة الشرف من رتبة فارس، صورةٌ واحدة لها، في بيتٍ بيروتيٍّ عتيق، وقفت فيه كأنّها المدينة نفسها، صامدة، كذاكرة وطن، كضميرٍ لم يُقصف. كانت تلك الصورة ضمادة على جرحنا النازف، أوقفته لبرهة، لا بمُسكّن، بل بابتسامتها الخجولة وباعترافٍ رمزيّ أنّ بيروت لا تزال حيّة، وتستحقّ التكريم لا التدمير. صورة لم تشفِ شيئاً، لكنها قالت الكثير، أكّدت أن كل العالم رآنا، ولو للحظات… قبل أن يستدير بصمته، ويتركنا وحدنا من جديد، مع جرحٍ مفتوح، ومدينةٍ تتنهّد في الظلّ.
لِتجّارِ الدمِ وصُنّاعِ الموتِ نقول:
نحن نعرفكم.
واحداً واحداً نعرفكم.
نعرف أسماءَكم التي تخفَّيتُم خلفها بألقابٍ لا تُشبهكم ولا تليقُ بأفعالكم، فخامة، معالي، سعادة.
نعرف وجوهَكم التي لم ترتجف أمامَ جثّةِ ألكسندرا.
نعرفُ لغةَ عيونِكم حين سُئلتم عن الحقيقة، فأجبتم "دعوا التحقيقَ يأخذ مجراه"، وكنتم أنتم مجراهُ المسدود.
نعرفُ معدنَ ضمائركم حين قلتم "لقد كان الوقتُ متأخّراً جدّاً".
أنتم مَن فجَّرَ المرفأ.
أنتم من خزَّنَ الموت، وحرسَه.
أنتم من خزَّنَ الموت، وتاجرَ به.
فباللهِ عليكم، أخبرونا...أخبرونا،
كيف غفَوتُم وهناكَ أرملةٌ نامتْ تلكَ الليلةَ وإلى جوارِها خوذةُ زوجِها الإطفائيّ، لا رأسه؟
كيف نمتُم وطفلةٌ كانت تأكلُ عنباً على شرفةِ البيت، فخطفها الزجاجُ الطائرُ من بينِ يدي أمِّها وأسقطَها لعبةً جامدة؟
كيف خلدتُم إلى النومِ وكهلٌ ظلّ ينزفُ حتى ابتلعَته أنقاضُ غرفته؟
كيف استلقيتُم وأمّهاتٌ أصبحنَ أطباءَ طوارئ فجأةً، يضغَطنَ على الجروحِ بأطرافِ مناشفِ المطبخِ المرتجفة؟
حقًّا، أخبرونا كيف أُوصِدتْ أعينُكم؟
بماذا حلمتُم؟
هل زارتْكم كوابيسُ الدم؟
هل استيقظتُم بهناءٍ عندَ الفجرِ وابتسمتُم للمرآة؟
أخبرونا، كيف لم يهزَّكم العويل؟
كيف وطئتُم أرضَ الجريمةِ ولم تُنكّسوا رؤوسَكم خجلاً؟
كيف شاهدتُم الصورَ على التلفاز؟ أم أنَّ أصابعَكم سارعتْ لتغييرِ المحطة؟
أيُّ قلوبٍ تملكون؟
أيُّ جلدٍ هذا الذي لا يقشعرُّ على الأرواحِ المعلّقةِ في الهواء؟
كيف استحممتُم بمياهٍ دافئةٍ ونظيفة، فيما العشراتُ رقدوا في دمائهم؟
كيف تناولتم وجبةَ الصباح، بينما أتخمَت الأجسادُ أسماكَ البحرِ؟
ولكن، على منْ تقرأُ مزاميرَك يا داوود؟
فقلوبُهم صمّاء، وأرواحُهم غيمةٌ عاقر، لا تحملُ مطراً ولا رحمة.
الألمُ الذي سببتموه يفوقُ الموتَ ذاته.
إنّه ألمُ تخلّي الأهل، ألمُ الغدر وألمُ الخيانة.
هو وجعُ الحقد، ومرارةُ التخلّي، وخنجرُ الخذلان.
ما ارتكبتموه يشبهُ سِفاحَ القُربى، لذلك كان الوجعُ فادحاً، لا يُحتملُ ولن يُنسى.
لَم تشبعوا من سرقةِ أموالِنا وأرزاقِنا،
سرقتم أرواحَنا وأعمارَنا،
طعنتمونا في الظهر، في القلب، في الروح، في الرئة طعنتمونا حتى خنقتمونا.
٤ آب ليس انفجاراً كما تُسمّونه.
٤ آب هو تفجير.
هو حفرةٌ سوداءُ في ضميرِكم الغائب،
لن تُردم، مهما دفنتُم من وثائق،
وهدّدتُم من قضاة،
ومزّقتم من تقارير،
وشوّهتم من حقائق.
وأنتم يا ضحايا الرابع من آب،
الأموات منكُم والأحياء،
السلامُ عليكم ولكم،
السلامُ على من ذابَ تحتَ الإسمنت،
ومن عانقَ موتَه في شظايا الزجاج،
ومن نزفَ حتى فارقَ،
ومن فارقَ بلا رُفات.
وإنْ صحَّ أنّ التاريخَ لا يرحم،
فلعلَّ هذا التاريخَ لن يُقفَل،
إلّا على مقاسِ أعناقِ قاتليكم.
وأنتم، يا من تقاسمتم الغنيمةَ فوقَ الرُكام،
اعلموا أنّ للرمادِ روحاً،
وأنّ تحتَ كلِّ جرحٍ، قلباً مكسوراً يحفظُ الأسماء، يحفظُ الوجوه، ويحفظُ التاريخ.
ستمرُّ الذكرى الخامسة كظلٍّ،
لكنّ الأرضَ لا تهدأ... حتى يحقّ الحق.
وإلى المدينةِ الصامدةِ نقول:
"آه يا بيروت، كم أتعبنا هذا القدر،
فاغمرينا... اغمرينا بمكاتيبِ المحبّين،
اغمرينا بتقاسيمِ العصافير،
اغمرينا بمزاريبِ المطر..."
لعلّ في طُهرِ مطرِك ما يغسلُ بقعَ الدماءِ عن ذاكرتِنا، ويُقيمُ فينا سرَّ المعموديةِ الوطنيّة.