تماه خلاّق

الاب ايلي قنبر
1."إلى جيلٍ فجيلٍ أُغلِنُ حقَّك بفَمي" ؟
نعيش اليوم أوقاتًا غير عاديّة وعصيبة جدًّا على كل الصعُد: فرديًّا، وجماعيًّا وعالميًّا على مستوى الكوكب. ونجِد أنفسنا كأنّنا في صحراء قاحلة من الأفكار والشُهود والطاقة الروحيّة والإيجابيّة، حتّى أنّنا يمكن ان نُردِّد كلام إيليّا النبيّ "حسبي الآن يا ربّ. فخُذ نفسي"، أو حتّى كلمات يسوع في بستان الزيتون "أجِز عنّي، يا ربّ، هذه الكاس". حتّى الأوضاع الاقتصاديّة في ظلّ النظام النِيُو لِيبراليّ المتوحِّش تذلّنا، ولا تسمح لنا بالتِقاط أنفاسنا: فنُهمل هذا، أنفسنا وعائلاتنا ومجتمعاتنا وكوكبنا، واضِعين الاستسلام نُصْبَ أعيُنِنا.
و ثُناءاتنا (الأزواج) ليسَت افضل حالًا. كذلك علاقتنا مع قلَذات اكبادنا، الذين لا نعرف كيف نرعاهم ونحميهم أو كيف نُكرِّس لهم الأوقات اللَّازمة لِلعناية بِهم بالشكل المناسِب والكافي.
أمّا حال كنائسنا وجماعاتنا الدِّينيّة (إسلاميّة أو غير) فحَدِّث ولا حرَج. إذ لم يُحسِن القيِّمون عليها إدارتها ولا السهَر على ناسها ولا الحفاظ عليهم ولا حمايتهم من الذئاب السياسيّة والاقتصاديّة الاجتماعيّة الكاسرة. لا بل إمّا انكسر هؤلاء وانهزموا أمامها،وإما تَوَاطأُوا معها على حساب الرعيّة التي أُوكِلَت إليهم. كذلك لم تنتفض الرعيّة يومًا لإثبات ذاتها أو لحماية نفسها من الذئاب، إذ اختبأ كثرةٌ منها وراء الضعف الذاتيّ أو الجُبْن غالبًا.
2. "لغز الشرّ وسَطوَته وانتشاره"
المجرمون يسرحون ويمرحون، والطيِّبون يبتَلون ويُظلَمون: "إلى متى، يا ربّ؟"، يصرخ الذين يؤمنون، فهل هم واقِعيُّون؟
لقد نشأوا على فكرةِ مسيحٍ أرضيّ (متّى 13: 24-30، مثَل الزؤان). في وقتٍ ينبغي لهُم أن يفهموا أنّ إقامة مجتمع عادل هو من مسؤوليّة البشر. الأمر الذي يتطلّب وَحدة الرؤية والأهداف، وورقةَ عملٍ تكون خارطةَ طريقٍ للتنفيذ.
لقد لفتنا يسوع إلى أن "أبي يعمل حتّى الآن، وأنا أعمل". لكن ليس من مسؤوليّة الله العمل بدلًا منّا في بناء عالمنا. فالناصريّ علّمنا أن "لتكُن مشيئتك كما في السماء كذلك على الارض".
إذًا، ما الذي يفعلُه "الأخيار" لرَدّ ما يبتَلون به من "الأشرار"؟ هؤلاء مُلتئمون حول مشروعِهم، يعملون بجدٍّ لتَحقيقه. فَما هو مشروع "الأخيار" في المُقابل؟ إنّهم مُشَرذمون، مُنقَسِمون ... وفي حال أبصَر مشروعهم النّور، فلا مجال لفَرض ما يرَونه على سواهم، بل مثَلهم الصالح والقدوة يُمكن أن يُؤثِّرا في الآخرين.
في وقتٍ من الأوقات، وُضِعَت الشريعة والقوانين تنظيمًا للعلاقات والأعمال بين الناس. غير أنّ بعضًا استغلّها ويستغلُّها لمآربه وحتّى لمصلحة أقاربه وأزلامه... في عالمنا المُعاصِر، قالوا بالدولة، فتبيَّن ايضًا أنّ "الدولة ليست بُنيَة طبيعيّة، بل بناءٌ تاريخي مشحونٌ بالقهر". "وحين تصبح أدوات القانون امتدادًا لآلة الهيمنة، لا يبقى إلَّا الفعل من خارج هذه الشرعية الشكليّة، أي المقاومة... لاستعادة السيادة". حتّى"القانون الدولي، والمحاكم الجنائية... قد تتحوَّل إلى أدوات جديدة لإعادة إنتاج هيمنة الدولة الأقوى". لكن لسنا امام طريقٍ مسدود: "إن المقاومة، خصوصًا في أشكالها اليوميّة، هي تعبير عن ديناميّاتِ سيادةٍ بديلة، تتَحدّى الرواية الرسميّة للقانون والشرعيّة". هلَّا فهِمنا يا قَوم؟
3. تماهٍ خلاّق
بالعودة إلى شخضيّة كلّ من إيليّا التِشبيّ ويسوع الناصريّ، يمكن أن يكون لنا تماهياً من خلالها يسمح لنا بترقُّب مَخرَجٍ مُشَرِّف إذا ما حسَمت الرعيّة موقفها وحزَمت أمرها.
فقد قاد إيليّا النبيّ مواجَهة قويّة مع الملكة إيزابِيل البِلَا ضمير والقاسيَة، بفَضحِه كذِب انبياء البَعل وزَيفَهم وإخراجَهم من المَشهَد، ما اضطرّه إلى الفرار إلى البرِّيَّة، إلى الصحراء. كان مُضنى، وقد فارَقتهُ الشجاعة واستسلم إلى الإحباط: "حسبي الآن يا ربّ. فخُذ نفسي". لقَد ساوَره الشكّ في نفسه، وفي إلَهِه، بحيث بات يُفكِّر في الموت. إلى أن اتاه الملاك بِما يُحيي الرميم ويُقيمه، ليَشهَد مجدَّدًا للإلَه الحيّ الذي "هو واقفٌ أمامه"!
وبكى يسوع على أورشليم التي راكمَت الانقسامات وأبَت أن تتوحَّد تحت راية مسيح الربّ. وفي بستان الزيتون، عانى من نزاعٍ كَيانيّ إلى حدّ طلبه من الآب: "أبعِد عنّي هذه الكاس. لكن ما لبث أن انتفض:" لتكن مشئتك".
مَن مِنّا لم يمُرّ بتجربة الإحباط واليأس تلك بعد ان تقدّم في العُمر وفي الحياة نظرًا لثِقَل الهُموم أو الضَعَفات أو جرّاء الوقوع في عادة سيِّئة تتملَّكه، او حين يرى ضعف الإيمان لدى المؤمنين وعجز رؤساء الكنائس والأديان أو تورُّطهم مع السلطات المدَنيّة؟
محَجّة خلاصنا تكمن في أن نتَحوَّل كما كتَب انْسِلم غْرُون مُتَاَمِّلًا حياة إيليَّا التِشْبِيّ:
"لقد بدّل إيليّا
صورته عن الله وصورته عن ذاته.
وشعر بأنه لا يستطيع أن يعتدّ بقواه الذاتية.
إننا نحتاج إلى الله يقودنا بعنايته
حتى نعبر الصحراء
ويفتح لنا الطريق عبر العواصف والزلازل
لنبلغ همس حضوره المُحِبّ والشافي واللَّطيف".
أختُم معكم بقَول لِأينشتاين: "هناك 2% من البشر يفكّرون، و 3% منهم يظنّون أنّهم يفكّرون. لكن هناك 95% من البشر يُفضّلون الموت على أن يفكّروا". ففي أيّ فئة نجِد نفسك؟