صرخة "مُواطَنة"

رنا سلما
في كل أزمة داخل وطننا أو خارج حدوده، يتكرّر المشهد الطائفي ذاته: اصطفافٌ خلف الزعيم، غضبٌ يُدار بـ"Remote" سياسي، وشعارات "الكرامة" و"الحقوق" تُحمل على الأكتاف.
لا يكاد اللبناني يفيق من كارثة حتى يُستدرج من جديد إلى خندق الطائفة، ليحتمي بها من الدولة التي يُفترض أن تحميه. وهكذا، يتحوّل كل استحقاق سياسي، اقتصادي، اجتماعي، أو رياضي إلى اختبار "ولاء" طائفي، لا إلى نقاش وطني جامع.
في الشارع، نسمع القصص نفسها من مواطنين ملّوا انتظار الوعود الفارغة لـ"الزعماء"... وفي عصر السوشال ميديا، أصبح الخطاب الطائفي أكثر حدّةً وانتشاراً. منصّات التواصل التي كان من المفترض أن تكون فضاءً للنقاش الحرّ، تحوّلت إلى ساحات تعبئة وتحريض. فنشاهد صفحات ومجموعات تُروّج لأخبار مفبركة أو مشوّهة بهدف تأجيج الخوف والكراهية بين الطوائف، وتستغل كل حادثة سياسية أو أمنية لتغذية العصبيات.
ما يحصل اليوم ليس وليد اللحظة، بل هو امتداد لمنظومة تعيش على الخوف، وتقتات من الغرائز. منظومة تُتقن استخدام أدواتها: الإعلام، الخطاب التعبوي، السوشال ميديا، وحتى المناسبات الدينية والرمزية، كي تُبقي اللبنانيين داخل "فقّاعة" الجماعة، لا داخل حدود المواطنة.
أيّ ملفّ معيشي وطني، يتحوّل إلى سجال طائفي عن "حقوق المكوّن"، فتُجمَّد القرارات، ويتوقف الإصلاح. وفي مجلس النواب، تُعطل مشاريع القوانين بسبب "حساسية التوازن الطائفي"، وبذلك يتحوّل المواطن إلى رهينة الصراعات. فالخطير في هذا المشهد، أنّ التجييش لم يعد مجرّد وسيلة لحشد جمهور انتخابي، بل تحوّل إلى نهج مستمر في تعطيل أيّ مشروع لبناء الدولة.
هنا يجب طرح السؤال التالي، أين القانون المدني الذي يساوي بين المواطنين؟ طبعاً الجواب واضح: هو مُستبعد قسراً لصالح زعماء الطوائف...
آن الأوان لأن نقولها بصوت واحد: الكرامة لا تُحمى بخطاب التحريض، بل بدولة تحاسب، وقانون يُطبَّق، ومؤسسات تساوي بين كل الناس. والمطلوب اليوم ليس الالتفاف على الطوائف، بل الخروج منها نحو دولة المواطنة.
لا يمكن للبنان أن يخرج من أزمته ما لم يُفكّك هذا الولاء الطائفي، ويُبنَ عقدٌ اجتماعي جديد يكون فيه الولاء الأول للدستور ويبدأ بمشروع وطني شجاع من خلال إرادة شعبية، ويُترجم بنضال سياسي وقانوني مستمر، ويُعبَّر عنه في صناديق الاقتراع.
المطلوب اليوم ليس فقط قانوناً مدنياً، بل وعي مدني لا ينجرّ وراء العصبيات، بل يطالب بالعدالة. وعيٌ لا يهتف للزعيم. والأهم العودة إلى الفكرة الجوهرية لبناء دولة بعيدة عن العصبيّات الطائفية: "أنا مواطن"!