العدوان الثلاثي في مرآة رحلة تشاد
محمد جهاد إسماعيل
يسرد الكاتب الانكليزي نايجل هيسلتين تفاصيل رحلته الشيقة في فضاءات الصحراء الكبرى، وذلك في كتابه "من الرمال الليبية إلى تشاد" الصادر عام 1960. قام هيسلتين برحلته تلك في أواسط خمسينات القرن الماضي، أما خط سير الرحلة فيبدأ من ساحل البحر المتوسط، نزولًا بعمق الصحراءين الليبية والتشادية، وصولًا جنوبًا لغاية فورت لامي، التي أصبحت تعرف لاحقًا باسم انجامينا.
يتجاوز وصف هيسلتين لرحلته في الكتاب، مفهوم أدب الرحلات التقليدي أو الدارج. فهو يتخطى أدب الرحلات، ليوغل ويتقدم في ما وراء هذا النوع من الأدب، وذلك من خلال مقاربته للعديد من العلوم وصنوف المعارف كالأنثروبولوجيا، والاثنولوجيا، والجغرافيا، والتاريخ، والأركيولوجيا، وعلم النبات.
تناول هيسلتين في هذا السياق طيفًا واسعًا من المواضيع والأشياء. كان من ضمنها ذلك الوصف المبهر الذي قدمه لواحات الصحراء المتناثرة، وكثبان الرمال الناعمة، وجبال تيبستي الشامخة بقمتها العالية (توسيدي). وكذلك تغنيه بسحر بحيرات أونيانغا وعجائبيتها التي توقد الألوان الصارخة في قلب الصحراء القاحلة الصفراء. وأيضًا استعراضه لطبائع قبائل التبو أو القرعان في مناطقهم بجنوب ليبيا وشمال تشاد. وحديثه الشيق عن الإبل وصيد الغزلان، وكذلك نقوش الصخور التي أبدعها الأسلاف قبل آلاف السنين.
كان للسياسة أيضًا نصيب من وقائع الرحلة وتفاصيلها، فقد عبّر الكاتب الانكليزي بشكل واضح وصريح عن تأييده للاستعمار الأوروبي للشعوب الأفريقية، فهو يرى أن هذا الاستعمار (المفيد) قد جلب التحضّر للأفارقة، وخلّصهم من نير تجار الرق العرب، وجلب إليهم شيئًا لم يكونوا يعرفونه من قبل، ألا وهو السلام! لم يعبّر الكاتب عن امبرياليته عبر آرائه وحسب، بل أيضًا بالممارسة. فقد جلس في ثكنة في الصحراء وسط العسكريين الفرنسيين، وأخذ يدق الأنخاب معهم احتفالًا باعتقال أحمد بن بلة:
"لم تكن الحفلة المقامة بالكامل على شرفي، بل أيضًا لبن بلة ورفاقه الذين أُلقي القبض عليهم أمس، بالنسبة الى العسكريين الفرنسيين كان هذا الإنجاز يستحق الاحتفال".
ثمة أمر لافت في رحلة هيسلتين، ألا وهو اهتمامه الواضح بأزمة السويس أو العدوان الثلاثي على مصر عام 1956. فرغم تواجده في ركنٍ قصي من الصحراء، ورغم انتباذه عن الحضر ووسائل الإعلام، إلا أنه كان منشغلًا بهذه القضية، وبدا مهتمًا بمتابعة مستجداتها وتطوراتها:
"علمنا أن الطائرات الفرنسية والإنكليزية قامت بقصف القاهرة وبورسعيد. لم نكن نعرف ما الذي يجري هناك على وجه الدقة، فقد كانت بطاريات المذياع شبه فارغة. ما فهمناه هو أنه ستكون هناك عملية حربية في السويس، وصراحة لم نول الموضوع كثيرًا من الاهتمام في البداية، لأننا توقعنا نجاح هذه العملية الحربية خلال 24 ساعة".
"جلسنا بعد العشاء واستمعنا الى مذياع عمل بشق الأنفس، لقد استمعنا الى أخبار من باريس ولندن حول حوادث السويس".
وتُطلِعنا تفاصيل الرحلة على أخبار لا نعلمها، حول المدى الذي وصلته آثار العدوان الثلاثي وانعكاساته داخل القارة السمراء، إذ يبدو أن الإنكليز والفرنسيين قد اتخذوا احترازات أمنية مشددة في أرجاء واسعة من أفريقيا آنذاك، خوفًا من عمليات انتقامية قد تستهدفهم، فهم يعلمون جيدًا مكانة مصر وعبد الناصر لدى الأفارقة:
"لم يكن أحد يعلم متى ستغادر القافلة التالية. ولم أكن أعلم حينها أن عملية السويس، قد أوقفت جميع قوافل شركة TAT المتجهة من تونس إلى تشاد، وإلى أجل غير مسمى".
لقد انتابهم الذعر جميعًا من الزعيم عبد الناصر. يذكر هيسلتين في أحد مواضع الرحلة أنهم أرادوا طرد الأشباح أو الأرواح الشريرة من عند إحدى البحيرات! فتناول ضابط فرنسي قنابل يدوية عتيقة من زمن الحرب العالمية الأولى، وقام بقذفها في البحيرة ومحيطها. ثم قال الضابط لدى سماعه صوت الانفجارات:
"هذا سوف يُخيف عبد الناصر".
قال الضابط هذه العبارة، وهو لا يعلم أن استعمار بلاده كان يحتضر. إذ سرعان ما استقلّت تشاد والجزائر وعدد كبير من البلدان الأفريقية الأخرى. لقد انتصرت إرادة الشعوب الحرة، وانتصرت حركات التحرر التي كان يدعمها عبد الناصر.
نبض