أنا الوحيد، لعبة: بورجيلي في مواجهة الأسطورة والفراغ

ريمون أبو حيدر
منذ بدايات القرن العشرين، بدأ الفن ينزاح عن أدواره التقليدية نحو فضاء فلسفي ونقدي، ترسّخ بشكل واضح في النصف الثاني من القرن. لم يعد الفن مجرد وسيلة للزينة أو التوثيق، بل أضحى أداة للتفكير والتأمل، تنفتح على أسئلة الوجود والمعنى. في هذا السياق، يمكن فهم أعمال إيلي بورجيلي ليس بوصفها ممارسات تشكيلية فحسب، بل كطقوس نقدية تمارس تفكيك المعنى وتُدخل الذات في متاهة الوجود. إنها أعمال تعكس حالة من الاضطراب الوجودي، fحيث تتصارع الذات مع فراغ المعاني في عالم متحول لا يعرف الاستقرار.
ينتمي بورجيلي إلى جيل من الفنانين اللبنانيين الذين عاشوا تجارب الحرب، وانعكست آثارها في معالجته لقضايا الفقد والذاكرة والهوية. دراسته للفنون البصرية في لبنان وفرنسا، وتجربته البحثية في تاريخ الفن والأركيولوجيا، مكنته من تطوير خطاب فني متمرد يرفض السرديات الجاهزة، ويصرّ على إعادة تشكيل الذات ضمن شرطها الوجودي واللغوي. في أعماله، تتلاقى الذاكرة الفردية مع التاريخ الجمعي لتتبلور تجربة فنية تتناول الحضور والغياب، والفراغ الذي يتركه انهيار المعتقدات الكبرى.
إنّ "أنا الوحيد، لعبة" (Le seul je) ليست مجرد صورة أو تركيب فني، بل تجربة وجدانية معقدة تتناول هشاشة الإنسان في صراعه مع اللاشيء، وتكشف عن كيف تتحول الذات إلى لعبة تتأرجح بين الألم واللاجدوى، بين الحركة والسكون، وبين الحياة والموت الرمزي. ينتمي هذا العمل إلى معرض Memoria75 (2014)، الذي أقيم في المعهد الفرنسي في بيروت، حيث يصور بورجيلي الذات في فراغ يشبه القبر، ليس كرمز للموت الجسدي، بل كرمز لموت المعاني المتجذرة: البراءة، الهوية، والأسطورة. يتحول الموت هنا إلى وعي متجدد يدفعنا إلى مساءلة جوهر الحياة والوجود.
في تركيب "أنا الوحيد، لعبة" تظهر صورة إيلي بورجيلي وهو ينظر من خلال فتحة ضيقة بين لوحين خشبيين، أشبه بصندوق أو تابوت مفتوح على فراغ. لا تبدو هذه الصورة كتمثيل ذاتي تقليدي، بل كتأمل وجودي داخل إطار من الحصار الرمزي. الفنان هنا لا يتجه بنظره إلى شيء محدد، بل يتأمل الفراغ، حيث يكمن نفي المعنى. ما بين الخشبتين، تتجسد الهوية ككائن معلق بين الحياة والموت الرمزي، بين الداخل والخارج. يتحول الجسد إلى علامة على التيه، في حين تواجه النظرة المنبعثة من الظلمة صمتاً مطبقاً لا يجيب. إنها صورة لذات تسكن الحافة، تسكن الفراغ، وتدرك هشاشتها في لعبة لا نهاية لها من المعنى والعدم.
يستحضر الفنان في هذا السياق كلمات الشاعر رينيه شار:
"لم ينزف الخيال إلا من ندوب قديمة."
لتؤكد أن الذات ليست كياناً ثابتاً، بل هي جرح يتشكل ويُعاد تشكيله باستمرار عبر الألم والذكرى. تبدأ الصورة بنغمة قاتمة تحاكي حالة نفي تجسّد اللاوجود والفراغ الوجودي، لكنها في الوقت ذاته تفتح فضاءً لتأويلات متعددة، تمكّن المشاهد من الانخراط في تجربة فلسفية نقدية تتحدى المألوف وتفكك المعاني التقليدية.
يحضر سؤال العدم عند بورجيلي كصدى لفكر ألبير كامو حول العبث، وكأن الذات في عمله تسير على حافة السؤال من دون أن تملك رفاهية الإجابة. كما يمكن مقاربة العمل من منظور جاك دريدا، إذ تتحول اللغة والهوية في هذا السياق إلى أثر لا يُمسك به، بل يتكرر وينزاح. هذا الانزياح يعكس بالضبط ما يعانيه الجسد في أعمال بورجيلي: لعبة لا تكتمل، وجود لا يستقر، وصوت لا يجد صدى. من هنا، يتحول الغياب من مجرد فقد إلى حالة وجودية متجددة تضع الذات أمام مرايا تتكسّر فيها ثوابت الهوية والمعنى.
في الصورة التي تلي عمل "أنا الوحيد، لعبة"، يظهر إيلي بورجيلي نفسه داخل إطار خشبي يشبه شرفة، حيث تتجه نظراته نحو الخارج مع رأس مصنوع من مادة الرزين بلون برتقالي-أحمر، وهو يحمل الرأس بيده اليمنى بحيث تمتد اليد نحو طرف الإطار الخشبي. الحركة في التركيب تعززها آثار عجلة مطاطية، تمد امتدادها من الخارج نحو الرأس المنحوت، ما يضفي إحساساً بالضغط أو الدوران المستمر.
يقول بورجيلي في العبارة التي تفتح هذا العمل:
"أنا، بورجيلي، لست مسؤولًا عن شيء، سوى أنني رميت هنا..."
عبارة تتفكك فيها اللغة لتصبح أداة تساؤل مفتوحة على المجهول، وليست جواباً جاهزاً. يتجاوز العمل بذلك مجرد نقد للذاكرة والأسطورة، ليحوّل العدم والفراغ إلى مرآة صامتة، والصمت إلى سؤال وجودي مفتوح، موضحاً توتراً بصرياً ونفسياً بين الحضور والغياب. فالحضور هنا هش، والغياب ليس مجرد فقد، بل حالة ذاتية عميقة تعكس هشاشة الذات الإنسانية في عصر تفكك المعتقدات.
في زمن تتلاشى فيه الحكايات الكبرى وتهتز أركان المعنى، يبقى السؤال الوجودي مطروحًا بلا إجابة سهلة:
كيف نعيش في عالم خالٍ من ملجأ الأسطورة؟
هنا يصبح الصمت قوة كاشفة، والعدم مرآة تعكس ذاتاً متألمة وهشّة، والفن وسيلة مفتوحة للحوار مع الذات والعالم، لا لتقديم إجابات جاهزة، بل لإثارة التأمل في وجع الفراغ ولعبة الذات المستمرة بين المعنى والعدم.
وبذلك، لا يُنهي كفن الأسطورة رحلته إلا ليبدأ حواراً متواصلاً، بحيث يظل السؤال قائماً، والفراغ حاضراً، واللعبة مستمرة. في زمن تتآكل فيه أنساق المعنى وتتساقط فيه الطمأنينات الكبرى، تأتي أعمال إيلي بورجيلي لتقول لنا شيئاً مهماً: لا وجود لحقيقة نهائية، فقط تأويلات وجروح. وبهذا، لا يكون الفن تأريخًا للماضي، بل اقتراح مفتوح لمستقبل يعترف بضعف الإنسان، ويحتفي بشجاعته في مواجهة الفراغ.