الذكورية: شجاعة مزيفة ورجولة كاذبة

سارة ملاعب
ينشأ الذكر في مجتمعاتنا العربية في بيئة ترسّخ مفهوم الذكورية في عقولٍ صغيرة. فمنذ نشأته، يروي المجتمع الذكوري عطشه من عقول الأطفال بجعلها ترسم قواعد الرجولية ومعاييرها بحدوده الخاصة. والذكورية لا تعني هيمنة الرجل المرأة وحسب، بل يمكن أن تتجسد من خلال مفاهيم أخرى. ففي مجتمعنا يُقال للطفل الذكر كأول درس: "الرجل لا يبكي، ولا يشتكي، ولا يضعف، هو الرّكن الأقوى وجبل لا تهزّه ريح"... كلمات تبدو في ظاهرها محفّزة، لكن في باطنها سُمٌّ يُزرع في روحه، ليمنعه من ممارسة حقّه الإنساني، وهو التعبير عن مشاعره.
حَقن المجتمع الذكوري في عقول الرّجال بأنَّ العاطفة عار، وأن الحزن ضعف، وأن البوح خطيئة، والتحدث عن المشاعر إساءة للرجل وبمثابة إهانة له. فالرجل الحقيقي، في نظرهم، هو من يرفع صوته ويصرخ، القوة بيده، والسّلطة بحوزته، والقرار الأول والأخير له... سجنت هذه المعتقدات حياة الرجال خلف قضبان الرجولية المزيفة، "رجولة" تجعل الرجل يختبئ خلف أقنعة لا تشبهه، فيبتسم على الرغم من ألمه، ويصمت عن وجعه، ويكابر على نفسه حتى يصل إلى ذروة الكتمان وينهار. إنَّ هذا التفكير هو السّبب الأول لمعظم المشكلات النّفسية عند الرّجال. ففي العودة إلى دراسات أجرتها منظمة الصّحة العالمية (WHO) ، تبيّن وجود نسبة مرتفعة من الاكتئاب والقلق عند الرجال في المجتمعات الذكورية، وذلك بسبب كبت المشاعر. ونحو 80% من هؤلاء الرّجال لا يلجؤون إلى العلاج بسبب القوالب النّمطية الّتي تربط المشاعر بالضعف. فمفهوم الرجولية المزيفة هو أساس المشكلات النّفسية، وفي بعض الأحيان يولّد الجرائم. فالجريمة هي نتيجة ضغوطات وتحديات تنعكس سلباً على نفسية الشّخص، فتدفعه إلى السّلوك الخاطئ أو ربما إلى الانتحار. كل هذه النماذج تقع ضحية شجاعة مزيفة، ورجولة كاذبة، وقوة وهمية.
في حين يرى المجتمع الذكوري أنَّ دموع الرّجل ضعف، وتعبيره عن مشاعره جريمة تكسر هيبته وتُضعف مركزه، ولكن الحقيقة هي العكس تماماً. فالرجل القوي هو من يمتلك الشّجاعة لمواجهة مشاعره والاعتراف بها من دون الخوف من أعباء التقاليد وأحكام المجتمع. إن الخوف من المجتمع هو الضّعف الأكبر، وهو ما يعبّر عن عدم تصالح الإنسان مع نفسه، ويُظهر رضوخه للواقع، ويعمل كالمشنقة التي تخنقه وتحرمُه نعمة الإحساس. فالرجل عقلٌ يفكر، وقلبٌ يشعر... ولا غنى عن أحدهما. وفي القرن الحادي والعشرين، يجب التّحرر من هذه القيود، والوعي أكثر بأن الحقيقة أعمق من هذه التعاريف السّطحية المدمرة.
ختاماً، حان الوقت لكسر هذه القيود، ولتغيير هذه النّظرة، فهذه التربية حمّلت الرّجال أعباءً نفسية صامتة، وعلاقات إنسانية هشّة، وبَنَت أجيالاً تظن أن الرّجل هو رجل آلي يعمل ويتحمّل ولا يشعر. إنها دائرة قاسية توارثتها الأجيال، لذلك يجب أن يُعاد تعريف الرجولة بمعاييرها الصّحيحة لبناء مجتمع سليم ...