في خاتمة الربع الأول من القرن 21: من سيحكم العالم؟

آراء 28-12-2025 | 21:14

في خاتمة الربع الأول من القرن 21: من سيحكم العالم؟

عالمنا في خاتمة الربع الأول من هذا القرن يبدو وكأنه رهينة قوة عسكرية اقتصادية تحكم قبضتها على الأكثرية الساحقة من البشر وتستبد بهم وتسوقهم بلا هوادة الى مستقبل غامض ومجهول.
في خاتمة الربع الأول من القرن 21: من سيحكم العالم؟
أوكرانيون يسيرون على ضوء السيارات في كييف بعدما أدى القصف الروسي إلى انقطاع الكهرباء. (أ ف ب)
Smaller Bigger

 

 

د. كرم الحلو 


أفادت الإحصاءات الأخيرة للخسائر البشرية والاقتصادية في حرب غزّة أن هناك 76 ألف ضحية ومفقود وحوالي 170 ألف جريح، فضلا عن دمار 90 في المئة من القطاع، و70 مليار دولار خسائر اقتصادية.
إزاء هذه الأرقام التي تكشف فظاعة حرب غزّة تحضر مقالة رمزية كتبها الرائد النهضوي فرنسيس المرّاش في مجلة "الجنان" البيروتية في عام 1872 صوّر فيها العقل سائحاً أرعبه المشهد الذريع لعالم القرن التاسع عشر حيث "أناس يمزّقون ثياب أناس، وقوم يهدمون بيوت قوم وأمة تسلب حقوق أمة، وقبيلة تنهب أمتعة قبيلة، وأفواج أفواج من البشر تقودهم أفراد قليلة كانقياد التيوس والثيران، تجلدهم بالسياط وتسوقهم الى حيث لا يعلمون". وإذ ينتهي العقل في سياحته الى أن "ملك التوحش" هو الذي يحكم على الأرض وينصب عرشه في "عاصمة الدنيا" يتساءل مذهولا: "وا أسفاه كيف يحكم العالم هذا الوحش الضاري وكيف يتسلط على البشر ويفتك بهم وهم لا يبالون ولا يشعرون!؟".

وفي العام الأخير من القرن العشرين وبعد أكثر من قرن كامل على تساؤل المرّاش كتب إدوارد سعيد في جريدة "الحياة" 21-6-1999: "إن أميركا هي أشبه بشقي أبله قادر على إلحاق أذى أكبر بكثير من أي قوة في التاريخ. ففي أسابيع قليلة تسببت أميركا وحلفاؤها بخسارة صربيا 136 مليار دولار في بنيتها التحتية، وبتشريد شبه كامل لألبان كوسوفو الذين زعمت حمايتهم من التطهير العرقي، كما لقي 560 ألفاً من العراقيين حتفهم نتيجة الحصار الأميركي للعراق. بينما تجاهلت أميركا مأساة الفلسطينيين والأكراد ولم تفعل شيئاً إزاء التطهير الذي لا يزالان يتعرّضان له منذ عشرات السنين". وأعاد سعيد التساؤل ذاته الذي طرحه المرّاش: "في عصر ما بعد الحرب الباردة، لا يزال السؤال ماثلاً: هل ستحكم العالم الولايات المتحدة وسياستها العسكرية – الاقتصادية السيئة التي لا تعرف سوى الربح والانتهازية!؟".
في نظرة سريعة الى السيرورة التاريخية للقرن العشرين نجد أن هذا القرن والربع الأول من القرن الحادي والعشرين قد عرفا أعظم ثورة في التقنيات وأسرع تقدم للعلم وللاتصال وأكبر تراكم للثروة والاقتصاد. وكان القرن العشرون الذي بدأ بحرب لم تشهد الانسانية مثيلا لها عبر تاريخها كله، قد حمل في الوقت نفسه أملا جديدا بالعدالة والمساواة والتكافؤ بين الطبقات والأمم والشعوب، أملا تمثل في انتصار الثورة البولشيفية التي رأى فيها الشاعر العراقي معروف الرصافي وعداً لفقراء العالم بالعدل والكفاف والحياة الكريمة ودعوة الى التفاؤل بمستقبل آخر للانسانية عبّر عنه بقوله: 
"يا أيها الفقراء لا تستيئسوا من عيشة يا أيها الفقراء،
رفعت أخيرا فوق رابية الهدى للبلشيفية راية حمراء".

وكان ثمة أمل آخر بزوال التسلط والهيمنة والخلل في العلاقات بين الأمم والشعوب تمثّل في نشوء عصبة الأمم عام 1919 على أساس المساواة بين الدول وضمان استقلالها واحترام بعضها البعض، لكنه أمل ما لبث أن بددته حرب عالمية ثانية أشد عنفا وضراوة انتهت بإنشاء هيئة الأمم المتحدة عام 1945 لتأمين التعاون بين الشعوب وتأكيد المساواة بين الدول واحترام حق تقرير المصير لكل شعب ومساعدة الشعوب الفقيرة. ولم يكن حظ هيئة الأمم أفضل من حظ سابقتها عصبة الأمم، سرعان ما ارتفعت حمى سباق التسلح مغرقة العالم في حرب باردة تفجرت حروباً إقليمية وأهلية استنزفت ثروات الشعوب وخيراتها. ولم تكن جلية شعارات العدالة والديموقراطية وحقوق الانسان الآخذة في الشيوع منذ أواسط القرن الماضي لتخفي الديكتاتوريات السافرة والمقنّعة التي استمرت بصيغ وأشكال مختلفة رغم انهيار سابقاتها الستالينية والنازية والفاشية التي أظلمت النصف الأول من القرن وأغرقته في الرعب والدم. فقد أبدلت هذه الديكتاتوريات بديكتاتورية الثروة، حيث راح التراكم الرأسمالي المتسارع يشق البشرية الى أقلية مفرطة في الثراء تتضاءل باستمرار، وأكثرية مدقعة في الفقر تتزايد باضطراد، حتى تضاعف عدد الفقراء المعدمين من 400 مليون فقير في الستينيات إلى ما يقارب الملياري فقير معدم حاليا، وحين تعايشت الديكتاتورية مع الفقر في أنحاء كثيرة وواسعة في عالمنا كانت ذروة القهر والمعاناة الانسانية.

 إن الصورة التي انتهى اليها القرن العشرون والربع الأول من هذا القرن جاءت محبطة ومخيبة للآمال بعالم تسوده العدالة السياسية والوئام بين الشعوب والأمم والطبقات. فقد سقط أمل العدل الاجتماعي والمساواة الاقتصادية الذي بشرت به ثورة أكتوبر، وكان أن أضافت الى القهر الاقتصادي صورا من الاستبداد فاقت في فظاعتها أحيانا ما عرفه تاريخ الانسانية كله، وهي اليوم تنوء بإرث مشؤوم فيما الاتحاد السوفياتي الذي كان لحقبة من الزمن واحدا من جباري العالم، ذكرى بائسة في متحف التاريخ الى جانب ترسانة عسكرية جبارة مترافقة مع بؤس اجتماعي وعجز سياسي مزريين.
 وكذلك سقط أمل المساواة بين الدول والشعوب الذي مثله قيام عصبة الأمم ثم هيئة الأمم، وما محنة غزة وكوسوفو وتفرد الحلف الأطلسي بالحرب على يوغوسلافيا بالإضافة الى عجز الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي عن تطبيق أي قرار لا يتمتع بموافقة أميركا وحلفائها، سوى التعبير الواقعي لأفول طوبى المساواة بين الأمم والشعوب وخلو الساحة الدولية أمام استئثار القوى العظمى بالسيطرة على العالم والتحكم بضعفائه.

عالمنا في خاتمة الربع الأول من هذا القرن يبدو وكأنه رهينة قوة عسكرية اقتصادية تحكم قبضتها على الأكثرية الساحقة من البشر وتستبد بهم وتسوقهم بلا هوادة الى مستقبل غامض ومجهول. فقد بات أكثر من نصف الاقتصاد العالمي في أيدي مئات من الشركات الكوكبية القابعة في الدول الصناعية السبع الكبرى، والتي تستأثر بأكثر من ثلثي الناتج الاجمالي العالمي بينما قرابة ثلثي البشر لا يتجاوز دخل الفرد منهم ثلاثة دولارات في اليوم ولا يبلغ نصيبهم من الدخل العالمي سوى 13 في المئة فقط، وإذ لم يعد في مقدور الأسلحة التقليدية مواجهة التكنولوجيا العسكرية الآطلسية، لم يبق أمام الدول والشعوب الفقيرة والضعيفة والتي تمثل أكثرية هذا العالم، سوى الإذعان لمشيئة وغطرسة القوة الأحادية الغاشمة التي لا هم لها سوى الاستفراد أكثر فأكثر بثروات الأرض ولو على بؤس الناس وقهرهم ومعاناتهم.

 أي نظام عالمي هذا الذي يتكرّس مطلع هذا القرن مجرّدا من العدل والرحمة والنزاهة والمساواة والتكافل بين البشر!؟ إنه ليبدو وكأنه "عالم من دون قيم" كما صوّره الكاتب البريطاني كولن ولسن في منتصف القرن الماضي في كتابه" اللامنتمي"، عالم استيقظت فيه العنصريات والأصوليات وغرائز السيطرة والأنانية الفجة والعدوانية، ورغم جميع الخطابات الخادعة عن المساواة وحق تقرير المصير والديموقراطية وحقوق الإنسان، لا تزال صورة عالمنا هي هي كما رآها المرّاش في نهاية القرن التاسع عشر، الصورة القاتمة عينها التي لو تأملها أديبنا النهضوي لما كان في وسعه إلا أن يكرر تساؤله من جديد: واأسفاه كيف يحكم العالم هذا الوحش الضاري!؟

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 12/27/2025 12:32:00 AM
جريمة عائلية مروّعة في حماة حيث عُثر داخل أحد المنازل على جثث زوجين وأطفالهما الثلاثة، في حادثة هزّت المدينة.
المشرق-العربي 12/27/2025 12:53:00 AM
وحدات حرس الحدود تلقي القبض على 12 شخصا مرتبطين بالنظام السابق على الحدود السورية – اللبنانية، وسيُحالون إلى الجهات المختصة لاتخاذ الإجراءات اللازمة.
المشرق-العربي 12/27/2025 4:36:00 PM
صودرت المضبوطات وفق الأصول القانونية المعتمدة، فيما أحيل المقبوض عليه إلى القضاء المختص لاتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة بحقه.
المشرق-العربي 12/28/2025 9:46:00 AM
يواجه الفلسطينيون في غزة مأساة إنسانية