لغة السلام في عالم التسلّح: أن نختار الحياة بين الحرب وتجويف الإيمان

آراء 28-12-2025 | 12:45

لغة السلام في عالم التسلّح: أن نختار الحياة بين الحرب وتجويف الإيمان

يبدو لي العالم كأنه فقد بوصلته، وأراه يندفع نحو المأساة: يتقدّم تقنياً ويتراجع إنسانياً، تُدار الحروب ببرودة الأرقام، وتُختزل الأرواح بالمعادلات...
لغة السلام في عالم التسلّح: أن نختار الحياة بين الحرب وتجويف الإيمان
صورة تعبيرية (مواقع).
Smaller Bigger

بارعة الأحمر

تتكدّس الأسلحة في العالم بوتيرة أسرع مما تُطرَح الأسئلة الأخلاقية، ويُرفع اسم الله على فوهات البنادق كما لو كان راية حرب، فتختلط لغة الإيمان بالقوة، والتكنولوجيا بالدم.

يبدو لي العالم كأنه فقد بوصلته، وأراه يندفع نحو المأساة: يتقدّم تقنياً ويتراجع إنسانياً، تُدار الحروب ببرودة الأرقام، وتُختزل الأرواح بالمعادلات.

وفيما يغيب السؤال الأقدم والأكثر إلحاحاً: ما الذي يجعل الحياة جديرة بالحماية؟ يخرج صوتٌ من قلب الكنيسة الكاثوليكية ليقول ما يجب أن يُقال "إن استغلال الدين لتبرير الصراعات والسياسات القومية خطيئة جسيمة وتجديفاً صريحاً". يتحدّث البابا لاوون الرابع عشر باسم الإنسانية المهدَّدة، محذّراً من استعمال الدين كأداة صراع أو تعبئة قومية. فالأديان، في معناها الإنساني الأوسع، ليست لغة إقصاء ولا غطاءً للقتل، بل مساحة أخلاقية لصون الكرامة البشرية وحماية الإنسان من العنف والظلم. وحين تُستَخدم لتبرير القتل أو للهروب من المسؤولية، تُفرَّغ من جوهرها ويجري اختطافها لخدمة السياسات السلطوية، التي تجعل من البؤس والموت أموراً عاديةً ومقبولة.

ولا يقلّ خطورة تحذير البابا من تسليم قرارات الحياة والموت إلى الذكاء الاصطناعي، لأنه يفضح هروب القادة من مسؤولياتهم الأخلاقية. فحين تُفوَّض الآلات والخوارزميات بقرارت تمسُ الضمير البشري، تتراجع المسؤولية الأخلاقية، بل تتآكل، ولا يُخفَّف عبء القرار بل ينكشف الانفصال بين القوة والضمير. فيصبح القتل "إجراءً"، والحرب "خياراً تقنياً"، ويضيع الحدّ الفاصل بين مبدأ الدفاع عن النفس وخيانة القيم التي تحمي الإنسان.

إنها خيانة  للمبادئ الإنسانية، تُختزل فيها الأرواح إلى بيانات، ويُترك جرح الإنسانية بلا مساءلة. في عالمٍ حيث تتصاعد الميزانيات العسكرية بوتيرة غير مسبوقة ويسود منطق تصادمي يهدد استقرار الكوكب برمّته.

ويكتسب نداء البابا دلالته الأعمق، لأنه لا يخاطب صراعاً بعينه ولا جغرافيا محدّدة، ويلامس جرح الإنسانية المفتوح. ينتقد القادة الذين يحوّلون الإيمان إلى أداة تعبئة قومية أو ذريعة للقتل، ويدافع عن جوهر الإيمان بوصفه التزاماً أخلاقياً بالحياة لا تبريراً لإزهاقها. فالدين، كما الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا، يغدو أكثر فتكاً حين يُستخدم لتبرير العنف أو لتغليف القتل بلغة أخلاقية زائفة، بعيداً عن المسؤولية الأخلاقية تجاه الإنسان والحياة.

ويجد هذا النداء صداه في مبادرات دولية تسعى إلى معالجة جذور العنف بدل الاكتفاء بإدارة نتائجه، وترفض استغلال الأديان سياسياً في عالم اعتادَ تبرير العنف بالمقدّس أو بالتقدّم التقني. من بينها المعاهدة الدولية لحظر الاستغلال السياسي للأديان، التي تقود مسارها منظمة "بيبيور إنترناشونال"، وتنطلق من احترام عميق للإيمان وحق المؤمنين في ممارسته بحرية وكرامة، ومن الإدراك بأن استغلال المعتقدات لخدمة الأجندات السياسية هو أحد أخطر أشكال العنف الرمزي، لأنه يمهّد للعنف المادي ويمنحه شرعية زائفة. هي محاولة لإعادة الدين إلى مكانه الطبيعي: فضاءً للمعنى لا وقوداً للصراع، ولنزع فتيل الحروب من العقول قبل أن تُشعل الأرض. إذ لا سلام في عالم تُستخدم فيه الأديان لتقسيم البشر إلى "نحن" و.."الآخرين".

وتهدف المعاهدة الدولية لحظر الاستغلال السياسي للأديان إلى وضع إطار قانوني دولي يهدف لحماية الأديان من التوظيف السياسي والتأسيس لألية دولية تمنع استغلالها لخدمة الأجندات السياسية التي تُنتج التمييز والإقصاء والحروب، فتساهم في صَون المجتمعات من الانقسام، وتعيدُ الاعتبار لمبادئ المساواة والعدالة وحقوق الإنسان.

قد لا نملك القدرة على إيقاف الحروب، لكننا نملك واجب تسمية الظلم باسمه، ورفض تبرير القتل وتحويل الله شريكاً في الدم. نملك اختيار لغة الحياة، في عالم أنهكته الحروب ومنطق التصادم يصبح السلام فعلاً مقاوماً واختياراً شجاعاً ومسؤولية أخلاقية مشتركة لا تحتمل التأجيل.

وفي زمن ميلاد السيد المسيح، الذي وُلد لاجئاً في مذود بلا جيوش ولا سلطة، وهو في جوهره احتفاء بالحياة وبالإنسان، وتذكير بأن السلام خيار أخلاقي لا ترفاً سياسياً، وأن الرحمة ليست هزيمة، تتجدّد هذه الدعوة بإلحاح: أن نختار الحياة، وأن نعيد السلام إلى لغتنا كي يعود إلى عالمنا

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 12/27/2025 12:32:00 AM
جريمة عائلية مروّعة في حماة حيث عُثر داخل أحد المنازل على جثث زوجين وأطفالهما الثلاثة، في حادثة هزّت المدينة.
المشرق-العربي 12/27/2025 12:53:00 AM
وحدات حرس الحدود تلقي القبض على 12 شخصا مرتبطين بالنظام السابق على الحدود السورية – اللبنانية، وسيُحالون إلى الجهات المختصة لاتخاذ الإجراءات اللازمة.
كتاب النهار 12/26/2025 5:20:00 AM
ظل التعايش قائماً على وسائل التواصل الاجتماعي حتى نشر أحد المعلمين في مدرسة طرابلسية فيديو لطفلة من عائلة مسلمة، تقول فيه إنها لا تحتفل بـ"الكريسماس"، لأنه عيد للكفار، فانقلب التعايش فجأة إلى حرب استخدمت فيها كل مفردات التكفير والشيطنة.
صحة وعلوم 12/27/2025 1:44:00 AM
ارتفاع ملحوظ في إصابات الإنفلونزا A (H3N2) في لبنان مع تحذيرات طبية من مضاعفات خطرة وضرورة الإقبال على اللقاح والوقاية.