عندما يصبح المسيح مرآة... قراءة نعيمه الروحية علاجاً لجراح لبنان

آراء 26-12-2025 | 22:16

عندما يصبح المسيح مرآة... قراءة نعيمه الروحية علاجاً لجراح لبنان

عندما يصبح المسيح مرآة... قراءة نعيمه الروحية علاجاً لجراح لبنان
إحياء عيد الميلاد في الجنوب. (نبيل اسماعيل)
Smaller Bigger

فاروق غانم خداج 
كاتب لبناني وباحث في الأدب والفكر الإنساني 

صدر كتاب "من وحي المسيح" لميخائيل نعيمه حديثاً عن هاشيت أنطوان – ضمن إصدارات دمغة نوفل في طبعة عام 2012 (ISBN 9789953264202)، وهو عمل سبق أن طُبع في طبعات قديمة منذ أواخر الثمانينات، ويعد أحد أبرز أعمال الكاتب والمفكر اللبناني الذي امتدّ عمره الشريف بين ثنايا العالم والكتاب والتأمل. يظلّ ميخائيل نعيمه أحد أعمدة أدب المهجر وأكثر من جمع بين الشعر والفلسفة والتأمل الروحي في الأدب العربي الحديث. عايش تجارب غنية بين الشرق والغرب، صقلت رؤيته للإنسان والوجود والحياة من خلال تجربة ثقافية وفكرية واسعة، جعلته مفكرًا متساميًا قادرًا على الجمع بين الروحانية والحداثة، بين الفكر والتجربة، وبين البحث عن الذات وفهم الآخر.

في هذا الكتاب، يقدم نعيمه المسيح كرمز للإنسان الكامل، ليس مجرد شخصية دينية جامدة، بل مرشد للوعي الإنساني والحياة الأخلاقية، مساهمة في تقليد صوفي عربي يبحث عن "الإنسان الكامل" الذي اختار الحب والرحمة والتوازن الروحي طريقًا نحو الحقيقة. لقد أمضى نعيمه عمره في دراسة الأناجيل وتأمل حياة المسيح وتعاليمه، ليقدّم للقارئ قراءة متأنية تتجاوز الطقوس والشكلية الدينية، وتقترب من جوهر الروح الإنسانية، لتصبح شخصية المسيح حياة مستمرة تتفاعل مع الإنسان في كل زمان ومكان، إعلانًا للحب بدلاً من الخوف، وللرحمة بدلاً من الحكم، وللتواضع بدلاً من الكبرياء، بطريقة تجعل القارئ يتلمس المعنى العميق للحياة من خلال تجربة روحية شخصية.

 

 

أسلوب الكتاب قائم على محادثة داخلية بين الكاتب والمسيح، أسلوب يجمع بين الحوار الداخلي الفلسفي وشفافية الاعترافات الذاتية، فيتحول النص إلى تجربة شخصية تأملية لا مجرد سرد أو تفسير. يستخدم نعيمه لغة شاعريّة متدفقة، تجعل القراءة رحلة من التفكير الروحي إلى التأمل العميق في الإنسان والوجود، فتتجاوز القراءة السطحية لتصبح تجربة روحية تمكن القارئ من إعادة اكتشاف ذاته. هنا، يصبح المسيح ليس فقط شخصية تاريخية أو دينية، بل مرآة للروح الإنسانية التي تبحث عن الحقيقة والخلاص من انقسامها الداخلي بين الروح والمادة.

يؤكد نعيمه أن الحب هو قانون الكون، وأنه أكثر من شعور عابر، بل قوة روحية تمنح الحياة معنى. يرى أن الإنسان يجب أن يتحرر من القيود الطقسية الجامدة ليعيش علاقة حقيقية مع روحه، بعيدًا عن الالتزامات الشكلية التي قد تعيق نموه الروحي والأخلاقي. ومن خلال هذه الرؤية، يفتح الكتاب أبوابًا للتفكير في القيم الإنسانية الجوهرية، مثل الرحمة والصدق والتواضع، ويقدّم منظورًا جديدًا للعلاقة بين الإنسان والآخر، بعيدًا عن الانقسامات الدينية والطائفية.

الأهمية الكبرى لهذا الكتاب في لبنان اليوم تتجلى في تعزيز التسامح والانفتاح الروحي، فلبنان، الذي يواجه أزمات اقتصادية وسياسية واجتماعية عميقة، بحاجة إلى استعادة القيم الإنسانية التي تجعل من التعايش ممكنًا. قراءة «من وحي المسيح» تساعد على تجاوز الانقسامات الطائفية، وتعيد إلى الوعي أهمية الحب والرحمة والاحترام المتبادل، لتصبح أساسًا لحوار وطني وروحي جديد. كما يمكن للشباب والمفكرين أن يجدوا في الكتاب مصدر إلهام للتفكير النقدي والبحث عن المعنى الحقيقي للوجود، بعيدًا عن صخب التجاذبات السياسية والطائفية العقيمة التي أنهكت البلاد. فهل يمكن لـ"قانون الحب" هذا أن يكون بديلاً لقانون الغاب السياسي والاقتصادي الذي يسود اليوم؟

يقدم الكتاب أيضًا فرصة للوعي الداخلي، إذ يحث القارئ على مواجهة ذاته وتساؤلاته العميقة حول الحب والخوف والحرية الروحية. فالمسيح، وفقًا لنعيمه، هو رمز للوحدة الروحية والوعي الذاتي، وبالتالي يصبح نصه دعوة للانفتاح على الآخر والعيش بروح أخلاقية سامية، تمكن المجتمع من تجاوز النزاعات والصراعات الداخلية عبر إدراك القواسم الإنسانية المشتركة.

في لبنان الحالي، حيث تتلاشى القيم وتتراجع المبادئ، يقدم «من وحي المسيح» قراءة توازن بين الفهم الروحي والفكر الإنساني، بين التأمل الفردي والمسؤولية الاجتماعية، وبين الإنسان وذاته والآخر من حوله. الكتاب لا يقدّم حلولًا سياسية أو اجتماعية، بل يقدم طريقًا روحيًا يمكن أن يكون أساسًا لإعادة بناء وعي إنساني جماعي، يستند إلى الحب والتسامح والرحمة كأساس للتفاعل الإنساني. إنه نص يذكّرنا بأن الروح الإنسانية تتوق دائمًا إلى المعنى، وأن الحياة لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال التوازن بين المادي والروحي، بين الفرد والمجتمع، بين العقل والقلب.

يظلّ ميخائيل نعيمه في هذا العمل نموذجًا فذًا للمفكر المتسامي الذي لا يكتفي بالنظر إلى الماضي أو الديانة على أنها قاعدة صلبة، بل يرى في المسيح رسالة مستمرة لكل إنسان يسعى إلى فهم ذاته وإيجاد مكانه في العالم. وفي زمن يحتاج فيه لبنان إلى قراءة تعيد الروح إلى أولوياتها، وتعيد الإنسان إلى قيمه الجوهرية، يصبح هذا الكتاب أكثر من مجرد قراءة أدبية أو دينية، بل تجربة روحية وأخلاقية عميقة، قادرة على منح الأمل والتأمل في مجتمع يعاني من انقساماته، ويبحث عن نور يرشده إلى الحياة بمعناها الأسمى.

باختصار، «من وحي المسيح» هو أكثر من كتاب؛ هو دعوة للحوار مع الذات ومع الآخر، هو رحلة روحانية نحو الحب والرحمة، وهو مرآة لعقل الإنسان ووجدانه. إن قراءة هذا الكتاب في لبنان اليوم ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورة إنسانية وأخلاقية، تذكّرنا بأن الحياة، مهما تعقدت، تبقى بحاجة إلى قيم مشتركة وروحانية متجددة، تجعل من الإنسان، قبل كل شيء، كائنًا حيًا قادرًا على الحب، على التسامح، وعلى بناء مجتمع أفضل وأكثر وعيًا وإنسانية.

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 12/26/2025 4:54:00 PM
تضمنت رسائل الجماعة في البداية "تهديدات للعلويين بغض النظر عن جنسهم وأعمارهم"
كتاب النهار 12/26/2025 5:20:00 AM
ظل التعايش قائماً على وسائل التواصل الاجتماعي حتى نشر أحد المعلمين في مدرسة طرابلسية فيديو لطفلة من عائلة مسلمة، تقول فيه إنها لا تحتفل بـ"الكريسماس"، لأنه عيد للكفار، فانقلب التعايش فجأة إلى حرب استخدمت فيها كل مفردات التكفير والشيطنة.
اقتصاد وأعمال 12/26/2025 5:12:00 AM
أسعار الذهب عند مستوى قياسيّ جديد!
اقتصاد وأعمال 12/26/2025 9:12:00 AM
إليكم الأسعار الجديدة للمحروقات اليوم...