قانون الانتظام المالي واسترداد الودائع: إصلاح لا يُنقذ أحداً
المحامية ميرنا الحلبي
لا يمكن إنكار أن طرح قانون الانتظام المالي واسترداد الودائع، ولو بعد سنوات من تفاقم الأزمة المالية، يُشكّل خطوة إيجابية من حيث المبدأ. فغياب أيّ إطار تشريعي شامل طوال هذه السنوات ساهم في تعميق الفوضى، وزاد من الاستنسابية، ووسّع فجوة انعدام الثقة بين المودعين والمصارف والدولة. لكن الإيجابية الشكلية في توقيت الطرح لا تكفي وحدها، إذا جاء القانون ضعيفًا في جوهره، ومبنيًا على مقاربات لا تعالج أصل الأزمة، ولا تؤدي إلى استعادة فعلية للودائع.
المفارقة الأساسية أن القانون المطروح لا يُرضي أحدًا. فالمودعون لا يستعيدون أموالهم، والمصارف تُحمَّل أعباء ثقيلة إلى جانب المودعين، فيما تبقى الدولة ومصرف لبنان بمنأى عن أيّ التزام مالي مباشر ومحدّد. وبدل أن يكون القانون مدخلًا لإعادة بناء الثقة، يأتي ليكرّس واقعًا جديدًا من الحقوق المقيّدة والالتزامات المؤجّلة.
فحتى ما يُسوَّق له على أنه حماية للودائع حتى سقف المئة ألف دولار لا يتجاوز كونه حماية اسمية. هذه الودائع لن تُعاد نقدًا، بل يُسمح باستخدامها فقط عبر الحوالات، الشيكات أو بطاقات الائتمان، أي ضمن نظام مصرفيّ لا تزال الثقة به مفقودة. أما ما يزيد على هذا السقف، فيُحوَّل إلى شهادات قابلة للتداول، موزّعة على فترات تمتدّ ما بين عشر سنوات وعشرين سنة، ما يعني عمليًا تجميد الحقوق وتحويلها إلى أدوات مالية غير مضمونة القيمة ولا التوقيت.
في هذا السياق، لا يمكن الحديث عن "عدالة في توزيع الخسائر". فالودائع المشروعة هي ملكيّة خاصة محميّة بموجب المادة 15 من الدستور، ولا يجوز المساس بها إلا لأسباب المنفعة العامة ووفق شروط صارمة. العدالة لا تبدأ بتوزيع الخسائر، بل بتحديد المسؤوليات، ومعرفة كيف نشأت الفجوة، ومن استفاد منها، ثمّ تحميل كلّ طرف حصته وفق القانون، وهذا لا يتم عبر نصّ تشريعي سياسي، بل عبر مسار قضائي وتحقيقي مستقلّ.
وتزداد الإشكاليات عندما ننتقل إلى الجانب التقني للقانون. فقد أشار اتحاد المصارف العربية، في ملاحظاته على المشروع، إلى ثغرات أساسية، أبرزها غياب الوضوح حول كيفية تسديد دين الدولة لمصرف لبنان بعد تحويله إلى سند طويل الأجل: هل سيتم تسديده دفعة واحدة أم عبر آلية استهلاك او إطفاء amortization؟ وما هي مصادر التمويل الفعلية؟ وكيف ستؤثر هذه الآلية على التدفقات المالية للمصرف المركزي وقدرته على الإيفاء بالتزاماته؟ كما لفت الاتحاد إلى أن تقييم أصول مصرف لبنان وتحديد حجم الفجوة رُبطا بإقرار هذا القانون، بدل أن يكونا خطوة مستقلة تسبق أي تشريع، وهو ما يثير تساؤلات جدية حول منطق التسلسل المعتمد.
كذلك، يلفت النظر الغموض المحيط بمفهوم "الأصول غير المنتظمة"، واسترداد الفوائد الناتجة عن الهندسات المالية، من دون تحديد آليات واضحة للتنفيذ، ولا للجهة التي ستتولى التحصيل، ولا لكيفية التعامل مع الحسابات المعنية. يُضاف إلى ذلك التناقض الواضح في نصوص القانون حول كيفية تسديد الودائع، بين ما يوحي بمدفوعات بالدولار، وما يقيّدها فعليًا بالمدفوعات الرقمية فقط.
الأخطر أن هذا المسار لم يكن حتميًا. فلو جرى منذ المراحل الأولى لتفاقم الأزمة إقرار كابيتال كونترول قانوني وشفاف، لكان تم ضبط التحاويل ومنع الاستنسابية. ولو أُلغيت السرية المصرفية بالكامل في حينه، ولُجئ إلى تعيين مديرين موقتين في المصارف الكبرى لضبط السحوبات ومواكبة إعادة الهيكلة، وأُطلق تحقيق واسع النطاق عبر جهاز مستقلّ يضمّ محققين، لكان بالإمكان حماية ما تبقّى من النظام المصرفي قبل الوصول إلى منطق شطب الحقوق.
من هنا، يصبح السؤال مشروعًا: هل الهدف الحقيقي من القانون هو حلّ أزمة الودائع، أم الإيحاء بأن الحكومة تعمل وتقدّم حلولًا، فيما الواقع هو كسب المزيد من الوقت عبر الجدل والأخذ والرد، بانتظار أن يسقط القانون أو يُعدّل شكليًا، من دون أيّ تسديد فعليّ للودائع أو وضع حدّ حقيقي للأزمة؟
الحلول الممكنة لا تزال معروفة وواضحة: البدء بتقييم مستقلّ وشفّاف لأصول مصرف لبنان، إطلاق مسار قضائيّ لتحديد المسؤوليات قبل توزيع الخسائر، إعادة هيكلة جدّية للقطاع المصرفي، وإقرار قانون يضمن استرداد الودائع تدريجيًا وبآليات واضحة ومضمونة، لا عبر وعود مؤجّلة لعقود.
في الخلاصة، قانون الانتظام المالي واسترداد الودائع، بصيغته الحالية، لا يشكّل حلًا بقدر ما يشكّل إدارة للأزمة. هو إصلاح شكلي لا يُنقذ أحدًا، ويُبقي الثقة مفقودة بين المودع والمصارف والدولة. والاستمرار في هذا المسار لن يؤدي إلا إلى مزيد من التأجيل، فيما المطلوب قرارات واضحة وشجاعة تضع حدًا للأزمة بدل الدوران حولها.
نبض