التعاطف الإنساني يخرق جدار الدين... شجرة الميلاد نموذجاً

التعاطف الإنساني يخرق جدار الدين... شجرة الميلاد نموذجاً
تعبيرية.
Smaller Bigger
شجرة الميلاد تدخل الى بيوت اللبنانيين، مسيحيين ومسلمين، سنّة وشيعة ودروز وعلويين. الظاهرة أصبحت معروفة وهي تتوسّع مع مرور الزمن.

لا يمكن فهم فيديو الطالبات الصغيرات في طرابلس، إذا لم يجرِ وضعه في سياقه التاريخي: شجرة الميلاد تقتحم بيوت المسلمين، لذا وجب التصدي لهذا الخرق دينياً. تقول الطالبة في الفيديو وهي تجيب على أسئلة رفيقتها، انها لن تتصوّر الى جانب شجرة الميلاد لأنها لا تريد ان تتشبّه بالكفّار، كما انها ستمضي عطلة رأس السنة في البيت لأنها كمسلمة لا تشارك في أعياد المشركين. 

أستاذ الدِين، الذي لقّن الطالبتين وعمم الفيديو، أراد التصدي مباشرةً للمشكلة: انتشار ظاهرة شجرة الميلاد بين المسلمين. لكنّه في الوقت نفسه طرح المشكلة الأهم والأشمل، والتي لم يلتفت اليها المعلّقون: الإحتفال بعيد رأس السنة، فالسنة التي يُحتفل بها هي السنة الميلاديّة وليست السنة الهجريّة.

 الأستاذ قام بواجبه الديني، هذا ما أفتت به "هيئة العلماء المسلمين" ومعها لجنة الأهل في مدرسة الطالبات، وخلاصته ان ما جاء في الفيديو لا يتناقض ابدا مع عقيدة التوحيد التي يؤمنون بها وهو بعيد كل البعد عن خطاب الكراهية الذي يرفضونه.

نحن اذن أمام حادثة تصادم بين الدين وما يترتب على العيش المشترك من نزعات تفاعل إيجابي بين البشر لأي دين انتموا. اساس هذا التفاعل الايجابي هو ما يُعرف بنزعة "التعاطف الإنساني"، وهو هذه القدرة المغروسة في نخاعنا الشوكي نحن البشر، والتي تسمح لنا بأن نضع أنفسنا مكان الآخرين، فنعيش حزنهم كما فرحهم.

لاحظ الباحثون في العلوم الانسانية ومنذ زمن بعيد ان الرضيع في يومه الأول أو الثاني يبدأ بالبكاء إذا سمع طفلاً آخرًا يبكي. ومن عمر السنتين، يشعر الطفل بحزن طفل آخر، فيذهب اليه ويعانقه أو يتشارك معه لعبته، حتى انه يأخذه الى عند أمه لتعتني به. نزعة التعاطف هذه تتطوّر بحسب مواقف الأهل والقيم السائدة في البيئة المعنية، إضافةً الى إمكانيات الإتّصال والإحتكاك بالآخرين.

شجرة الميلاد، بزينتها وألوانها، والأغاني التي تترافق معها، تُدخل الفرح الى قلوب المسيحيين، صغارا وكبارًا، وهي ترمز الى ذكرى ولادة طفل حمل المحبّة في قلبه لجميع البشر، ممّا حوّل الشجرة تلقائيًّا الى عامل جذب للمواطنين لأي دين أو طائفة انتموا. ومع مشاركة أسطورة بابا نويل في المناسبة، والهدايا التي يجلبها معه، لا غرابة في ان يتعلّق الأطفال أكثر من غيرهم بهذا العيد. وربما كان التصويب على الأطفال، في الفيديو المذكور أعلاه، هو في الواقع، محاولة للجم ظاهرة تفشي ظاهرة شجرة الميلاد، عند الذين هم أكثر تأثّرًا بها. 

لكن شجرة الميلاد، وعلى عكس "المغارة" التي ولد فيها يسوع، والتي يضعها المسيحيون الى جانب الشجرة، لا تحمل بحدّ ذاتها معانٍ دينيّة صارخة، أو محرجة لأتباع الديانات الأخرى. حتى ان أحد اللاهوتيين، وفي بداية انتشار شجرة الميلاد في أوروبا، سخر من هذه الظاهرة واصفًا إياها بالتافهة التي "تحل محل كلمة الله"، معتبرًا انها مجرّد "لعبة أطفال". وهذا صحيح الى حدٍّ كبير، غير انّ الظاهرة تستمد جمالها وفعّاليتها الإنسانيّة من كونها تحديداً "لعبة اطفال"، وهي قد دخلت بفرح بيوت اللبنانيين بهذه الصفة بالذات، وليس بالضرورة بصفتها الدينية. هل نسيَ اللاهوتي الفذّ ان المناسبة هي ذكرى ولادة طفل قال لأتباعه عندما كبر انهم لن يدخلوا ملكوت السموات ان لم يعودوا كالأطفال؟

لا اعتقد بأن الأديان التوحيدية مقتنعة حقاً انها تؤمن بإله واحد. الكنائس المسيحيّة تصرّ على اعتبار إنجيل المسيح مكملاً لتوراة اليهود، بالإستناد الى قول يسوع "جئت لإكمل لا لأنقض"، رغم ان صَلْبَ يسوع من قبل رجال الدين اليهود هو برهان قاطع على أن "المسيحيّة" كما جسّدها يسوع كانت مرفوضة يهودياً. وليس صعبًا على المرء أن يكتشف عند قراءة التوراة والإنجيل، أن الكتابين يتكلمان عن إلهين مختلفين، الى حد التناقض أحيانًا.

أمّا الإسلام الذي تأثّر باليهوديّة وبالمسيحيّة في تعاليمه، ورغم انه يكن كل الإحترام والتقدير لــ "عيسى ابن مريم"، غير انه لا يعترف به إلهًا كما يفعل المسيحيون. 

في الواقع تتشاوف الأديان على بعضها البعض. فقد اعتبرت المسيحيّة ان يسوع، الذي قتله اليهود، هو الله، أي انه أعلى مرتبة من كل أنبياء اليهود. أما الإسلام، ومع اعترافه بالديانتين اللتين سبقتاه، فإنه يعتبر ان تعاليمه هي الكلمة الفصل، ذلك ان النبي محمد هو خاتمة الأنبياء.

إن التعاطف الإنساني، الذي يتولّد عفوياً من العيش المشترك ويرسّخه، لا يميّز سلبيًّا بين البشر، في حين ان الأديان، التي تكفّر بعضها البعض، ضمنياً ان لم يكن علانيةّ، تبني الجدران وتباعد بين البشر مولّدة في ما بينهم شعوراً بعدم الثقة وصولاً الى الكراهية.

المفارقة هنا، هي ان المسلمين الذين يُدخِلون شجرة الميلاد الى بيوتهم، وربما خلافاً لما تأمر به ديانتهم، انما يتصرفون كما تصرف يسوع نفسه عندما وضع التعاطف الإنساني فوق دينه اليهودي آنذاك، وهو على الارجح، قد صُلب بسبب ذلك.

فالسبت في العقيدة اليهودية هو يومٌ مُخصص للراحة والعبادة، واية ممارسة خارج هذا الاطار تُعتبر مخالفة للدين اليهودي. وهذا ما لم يلتزم به يسوع، فراح يخالف تعاليم دينه ايام السبت، تارة يأكل هو وتلاميذه من السُّنبُل وهم يمرّون بين الزروع، وتارة أخرى يشفي المرضى كلما التقى بهم. وعندما سأله رجال الدين اليهود لماذا يفعل هو وتلاميذه في السبت ما هو محرّم، قال لهم: "إِن السَّبتَ جُعِلَ لِلإِنسان، وما جُعِلَ الإِنسانُ لِلسَّبت. فَابنُ الإِنسانِ سَيِّدُ السَّبتِ أَيضاً."

للأسف، وبعد ان استبدلت الكنائس المسيحية يوم السبت بيوم الاحد، تناست في احيان كثيرة "ان الاحد جُعل للانسان وما جُعل الانسان للأحد." وكأن قدر المحبة بين البشر، ان تبقى في صراع دائم مع العقائد، اياً كانت.

الأكثر قراءة

العالم العربي 12/22/2025 6:32:00 PM
بيّنت الداخلية السورية أن هذه العملية تعكس مستوى التعاون الإقليمي المتين والجهود المتواصلة لمكافحة الشبكات الإجرامية المنظمة.
العالم العربي 12/23/2025 10:17:00 PM
أحد أبرز القادة العسكريين الذين قادوا مساعي توحيد المؤسسة العسكرية الليبية وعززوا علاقاتها الإقليمية والدولية.
المشرق-العربي 12/22/2025 4:35:00 PM
انعكس الانقسام حيال حصر السلاح بيد الدولة العراقية في مواقف قادة فصائل بارزين، بينهم قيس الخزعلي (أمين عام عصائب أهل الحق) وشبل الزيدي (أمين عام كتائب الإمام علي)، اللذان أبديا موقفاً مبدئياً مؤيداً للطرح، في مقابل رفض صريح من "كتائب حزب الله" وحركة "النجباء".
المشرق-العربي 12/22/2025 1:39:00 PM
ضبط صواريخ "سام-7" في مداهمة أمنية بدير الزور