الميلاد في القرى الجبلية المختلطة... الوطن الذي يسبقُ الطوائف
فاروق غانم خداج
كاتبٌ لبنانيٌّ وباحثٌ في الأدبِ والفكرِ الإنسانيّ
في القرى الجبلية المختلطة من الشوفِ وعاليه، لا يُختَزلُ عيدُ الميلادِ في كونه مناسبةً دينيّةً تخصُّ جماعةً بعينِها، بل يتجاوزُ حدوده الطقسيّة ليغدو زمنًا اجتماعيًّا جامعًا، تُعلَنُ فيه أفراحُ البيوتِ قبلَ الكنائسِ، وتُضاءُ فيه القلوبُ قبلَ الأجراسِ. هناك، حيثُ الجبلُ أعلى من الانقسامِ، وحيثُ الذاكرةُ أصدقُ من السياسةِ، يتكوّنُ معنى خاصٌّ للعيشِ المشتركِ، لا يُدوَّنُ في الدساتيرِ ولا يُختصرُ بالشعاراتِ، بل يُعاشُ يوميًّا، ويُورَّثُ كما يُورَّثُ الخبزُ والزيتونُ، وكما تُحفَظُ أسماءُ الحقولِ والدروبِ جيلا بعدَ جيلٍ.
في تلك القرى، لا يبدو الميلادُ طقسًا منفصلا عن الحياةِ اليوميّةِ، بل حدثًا قرويًّا شاملا، يتداخلُ فيه الدينيُّ بالاجتماعيِّ من دونِ تصادمٍ أو ادّعاء. تُزيَّنُ الساحاتُ البسيطةُ، وتُضاءُ الطرقاتُ بالحبالِ الملوّنةِ والمصابيحِ المتواضعةِ، وتتعالى التهاني من بيتٍ إلى بيتٍ بلا سؤالٍ عن المذهبِ ولا حاجةَ إلى تعريفٍ. الفرحُ هنا لا يطلبُ بطاقةَ هويّة، ولا ينتظرُ إذنًا مسبقًا، بل يسري كما يسري الهواءُ بين البيوتِ المتجاورةِ، ويأخذُ شكله من بساطةِ الناسِ وصدقِهم.
يطرقُ المسلمُ بابَ جارِه المسيحيِّ مهنّئًا قبلَ قدّاسِ العيدِ، ويبادلهُ المسيحيُّ الزيارةَ في الأعيادِ الإسلاميّةِ بالحرارةِ نفسها. لا يُمارَسُ هذا السلوكُ بوصفِه استعراضًا للتسامحِ ولا ترفًا أخلاقيًّا، بل كعادةٍ راسخةٍ تشبهُ تبادلَ المواسمِ، وتشاركَ الخبزِ والماءِ، والوقوفَ معًا في الأفراحِ كما في الأتراحِ. هو فعلٌ يوميٌّ هادئ، لا يُعلَنُ في البياناتِ، ولا يُرفَعُ كشعارٍ، لكنّه يُمارَسُ بثباتٍ منذ عقودٍ طويلة، ويشكّلُ نسيجًا خفيًّا يحفظُ التوازنَ الاجتماعيَّ من دونِ ضجيج.
في الشوفِ وعاليه، نتعلّمُ من الأجدادِ أنّ العيدَ ليس زمنًا خاصًّا بفئةٍ دونَ أخرى، بل مناسبةٌ لاختبارِ إنسانيّتنا المشتركةِ. كانوا يقولون، من دونِ تنظيرٍ ولا خُطَبٍ: «الجارُ قبلَ الدارِ»، ويترجمون هذه الحكمةَ أفعالًا في الأعيادِ والمواسمِ. تُرسَلُ صواني المعمولِ والكعكِ إلى البيوتِ جميعِها، وتعودُ محمّلةً بدفءِ الودِّ لا بثقلِ التصنيفاتِ. لا يحصي أحدٌ لمن هذه الحلوى أو من أرسلَها، لأنّ المعنى أوسعُ من التفاصيلِ، ولأنّ الفرحَ لا يُقاسُ بالهويّةِ بل بالمشاركةِ.
الأجدادُ، الذين عاشوا قبلَ أن تُثقِلَهم المصطلحاتُ الحديثةُ عن «الاندماجِ» و«العيشِ المشتركِ»، فهموا بالفطرةِ أنّ الجبلَ لا يحتملُ الشقوقَ العميقةَ. فإمّا أن يكونَ الناسُ فيه جسدًا واحدًا، أو يتداعى كلُّه. لذلك، بنَوا علاقتَهم بالآخرِ على الاحترامِ المتبادلِ والمشاركةِ الصامتةِ، لا على المجاملاتِ الموسميّةِ ولا على الخوفِ من الاختلافِ. كانوا يدركون أنّ الاختلافَ، حين يُعاشُ بكرامةٍ، يتحوّلُ إلى عنصرِ غنى لا إلى سببِ انقسامٍ.
في ليالي الميلادِ، تسمعُ القريةُ كلُّها رنينَ الأجراسِ، حتى أولئك الذين لا يدخلون الكنيسةَ. ولا يُشعرُ هذا الصوتُ أحدًا بالغربةِ، بل بالطمأنينةِ. إنّه إعلانُ فرحٍ عامٍّ، لا نداءٌ خاصٌّ. صوتٌ يهبطُ من أعالي الكنائسِ ليغمرَ الحقولَ والبيوتَ، كأنّه يذكّرُ الجميعَ بأنّ الفرحَ لا يُقسَّمُ، وبأنّ الحياةَ المشتركةَ لا تُختصرُ بجدرانٍ أو طقوسٍ، بل تُبنى على الإحساسِ المتبادلِ بالأمانِ والانتماءِ.
هذا المعنى للميلادِ، بوصفِه ممارسةً يوميّةً للسلمِ الأهليِّ، ليس ذكرى بعيدةً ولا صورةً رومانسيّةً عن الماضي، بل مسؤوليّةٌ حاضرةٌ. لقد علّمنا الجبلُ أنّ الاختلافَ لا يُدارُ بالخطاباتِ ولا بالبياناتِ، بل بالعِشرةِ الطويلةِ، وبالذاكرةِ المشتركةِ، وبقدرةِ الناسِ على رؤيةِ الإنسانِ قبلَ الانتماءِ. هناك، لا يتحوّلُ الآخرُ إلى مشروعِ خصومةٍ، بل يبقى شريكَ حياةٍ وجارَ طريقٍ.
ما نرثُه عن أجدادِنا في قرى الشوفِ وعاليه ليس حنينًا إلى زمنٍ منقضٍ، بل قيمةً قابلةً للحياةِ اليومَ. نرثُ فكرةَ أنّ لبنانَ لا يُحفَظُ بالضجيجِ، بل بالصمتِ النبيلِ بين الناسِ، بالمواسمِ المشتركةِ، وبالأعيادِ المتداخلةِ، وبالقدرةِ على الفرحِ معًا من دونِ شروطٍ مسبقةٍ. في هذا السياقِ، يصبحُ الميلادُ درسًا في الحرصِ على الوطنِ، وفي صيانةِ الروابطِ الاجتماعيّةِ التي تحمي المجتمعَ من التفكّكِ.
في الشوفِ وعاليه، يبقى الميلادُ مساحةَ لقاءٍ وفرصةً متجدّدةً لتأكيدِ أنّ الوطنَ، حين يُعاشُ بصدقٍ، يسبقُ الطوائفَ من دونِ أن يُلغيها، ويجمعُ الناسَ من غيرِ أن يُذيبَ خصوصيّاتهم. وما أحوجَنا اليومَ إلى صونِ هذا المعنى، لا بوصفِه ماضيًا جميلًا، بل حاضرًا يجبُ الدفاعُ عنه، ليبقى الجبلُ شاهدًا على أنّ العيشَ معًا ليس استثناءً عابرًا، بل خيارًا يوميًّا ممكنًا وضروريًّا.
نبض