حرب السودان... كيف تهدّد كارثة إنسانية باشتعال إقليمي؟
منذ اندلاع الحرب في السودان في نيسان/أبريل 2023، لم تعد المواجهة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع مجرد صراع داخلي على السلطة والنفوذ. فمع سقوط عشرات الآلاف من القتلى، وتشريد ملايين آخرين داخل البلاد وخارجها، وفقاً للأمم المتحدة، تحوّل هذا النزاع إلى عامل تهديد مباشر لاستقرار المنطقة بأكملها، من تشاد غرباً حتى البحر الأحمر شرقاً، في لعبة نفوذ إقليمية معقدة لا يربح فيها سوى الفوضى وانهيار الدول الهشة.
لم تعد صور الخراب الواردة من الخرطوم ودارفور مجرد مشاهد عابرة في نشرات الأخبار، بل تحوّلت إلى إنذار مبكر بانهيار إقليمي واسع. دولة تتفكك في قلب أفريقيا، وحدود سائبة، وسلاح يتدفق بلا قيود، ومجتمعات محلية تُدفع قسراً إلى قلب صراعات أكبر منها. فما يجري في السودان اليوم لا يهدّد وحدته فحسب، بل يختبر هشاشة النظام الإقليمي بأكمله في واحدة من أكثر مناطق العالم اضطراباً وتشابكاً للمصالح الدولية.
تشاد: برميل بارود على وشك الانفجار
ربما تُعدّ تشاد أكثر دول الجوار تأثراً بتداعيات الحرب السودانية. فسقوط مدينة الفاشر في أيدي قوات الدعم السريع أواخر تشرين الأول/أكتوبر الماضي أعاد تسليط الضوء على التعقيدات الأمنية والاجتماعية في إقليم دارفور والمناطق الحدودية.
قوات محمد حمدان دقلو (حميدتي)، التي تؤدي دوراً محورياً في موازين القوى غرب السودان، تفرض واقعاً جديداً يثير تساؤلات في نجامينا، لا سيما في ظل الروابط القبلية العابرة للحدود، حيث يشكّل أبناء قبيلة الزغاوة عنصراً مهماً داخل الجيش التشادي. هذا التشابك القبلي والأمني يجعل أيّ تصعيد محتمل عامل ضغط داخلي يتطلب إدارة حذرة من السلطات التشادية.
من ناحية أخرى، يلعب الرئيس محمد إدريس ديبي لعبة شديدة الخطورة؛ فبعد دعمه الأولي لرئيس الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان، انقلب نحو قائد الدعم السريع. هذا التحول يضعه في مواجهة مباشرة مع ضباط نافذين داخل مؤسسته العسكرية، وقد يفتح الباب أمام تمردات داخلية تهدد استقرار البلاد، وخاصة في ظل فقدان تشاد شبكة الأمان الفرنسية بعد إنهاء الاتفاقيات العسكرية مع باريس نهاية عام 2024.
كينيا وجنوب السودان: التواطؤ الصامت
أثار اكتشاف صناديق ذخيرة كينية في الخرطوم، خلال حزيران/يونيو الماضي، وفقاً للجيش السوداني، فضيحة ديبلوماسية واسعة. ورغم نفي الحكومة الكينية تورّطها المباشر في القتال، فإن الرئيس وليام روتو لم يعد يخفي تقاربه مع حميدتي. في الوقت نفسه، تحولت نيروبي إلى مركز رئيسي لتهريب الذهب السوداني إلى الخارج، بحسب تقارير الأمم المتحدة، ما أضعف مصداقية كينيا كوسيط إقليمي محايد.
أما جنوب السودان، الدولة الهشة أصلاً، فتمارس سياسة أكثر ازدواجية وخطورة. الرئيس سيلفا كير يسعى لإرضاء جميع الأطراف؛ يحافظ في الوقت ذاته على علاقة مع البرهان الذي يسيطر على خط أنابيب النفط، شريان الحياة الاقتصادي لبلاده، وأيضاً مع حميدتي.
مصر وإريتريا: الحصن الشمالي
تنظر القاهرة إلى السودان باعتباره عمقاً استراتيجياً لا يمكن التفريط به. فمياه النيل التي تعتمد عليها حياة أكثر من مئة مليون مصري، إلى جانب أمن الحدود الجنوبية، تمثل خطوطاً حمراء تدفع مصر إلى دعم الجيش السوداني، خشية انزلاق البلاد إلى فوضى شاملة يصعب احتواؤها.
أما إريتريا، فقد وفرت دعماً لوجستياً غير مباشر، وشكلت مع القاهرة والخرطوم تحالفاً أمنياً يهدف إلى مواجهة النفوذ الإثيوبي المتصاعد، خصوصاً في منطقة البحر الأحمر ذات الأهمية الاستراتيجية البالغة.
الخلاصة المُرّة
لم تعد حرب السودان شأناً داخلياً، بل تحولت إلى صراع بالوكالة يعيد رسم تحالفات القرن الأفريقي، ويهدد بإشعال أزمات متلاحقة تمتد من تشاد إلى البحر الأحمر. وبينما تتصارع القوى الإقليمية على النفوذ والمصالح، يدفع الشعب السوداني الثمن الأثقل: مجاعة، وتشريد، ومستقبل يزداد غموضاً.
المأساة الحقيقية أن المجتمع الدولي يواصل مراقبة هذا الانهيار بصمت مخجل، بينما تتحول إحدى أكبر الكوارث الإنسانية في العصر الحديث إلى فصل جديد من فصول الفوضى الإقليمية المفتوحة على كل الاحتمالات.
نبض