الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان وروسو: حين يلتقي المؤسّس بالحكمة الفلسفية في ولادة الدولة
في لحظات نادرة من تاريخ الشعوب، يظهر رجال يشبهون الفجر: لا يأتون ليضيفوا صفحة إلى كتاب التاريخ، بل ليعيدوا تعريف التاريخ نفسه. هؤلاء لا يكتفون بترميم الواقع، بل يخلقون واقعًا جديدًا، يحمل بصمة الإنسان، وإيقاع الروح، وجرأة القادة الذين لا يخافون أن يضعوا مستقبلًا حيث لم يكن حاضر بعد.
من هذا النوع كان الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رجل خرج من قلب الصحراء، من أرض كانت تتكوّن من بنى اجتماعية متفرّقة، ومن عالم يبدو بعيدًا عن السياسة الحديثة والفكر الفلسفي، لكنه حمل في رؤيته ما يشبه — من حيث الجوهر — أفكار الفيلسوف الفرنسي جان-جاك روسو (Jean-Jacques Rousseau).
روسو كتب عن "الإنسان" قبل أن يكتب عن "الدولة"، وعن "الكرامة" قبل أن يتحدث عن "السلطة"، وعن "الإرادة العامة" قبل أن تتشكل الشعوب. كان يؤمن أن الدولة لا تُبنى بالقوانين وحدها، بل تُبنى عندما تمتلك الجماعة حلمًا واحدًا وإرادة مشتركة تتجاوز العصبيات والحدود والشروخ القديمة.
والشيخ زايد كان رجل تلك اللحظة. لم يكن حاكمًا يحاول إدارة واقع قائم، بل مؤسسًا يعيد صياغة الواقع نفسه. جمع، بحكمة الحكيم وبصيرة القائد، تلك البُنى الاجتماعية المتناثرة، وحوّلها من روابط ما قبل الدولة إلى شعب واحد يمتلك مشروعًا وصوتًا واحدًا اسمه “الاتحاد”.
في سردية التأسيس هذه، يلتقي الفيلسوف الذي حلم ببناء الإنسان مع القائد الذي جعل هذا الحلم حقيقة. يلتقي النظري بالعملي، والفكرة بالعمران، والعقد الاجتماعي بورشة بناء دولة.
من الجماعة إلى الشعب: التحوّل الذي كتب عنه روسو وحقّقه زايد
كتب روسو أن الإنسان يولد حرًا، لكن المجتمعات تبدأ دائمًا من الروابط الأولية: عائلات، مجموعات محلية، أعراف، ومصالح ضيقة. هذه الروابط ليست عيبًا، بل هي مرحلة طبيعية في تاريخ الاجتماع البشري.
الانتقال من جماعات متفرقة إلى “شعب” يتطلب لحظة تأسيسية تخلق إرادة عامة وتبني وعيًا جديدًا بالانتماء. هذا التحوّل ليس تقنيًا، بل وجوديًا.
وكان هذا التحوّل نفسه ما صنعه الشيخ زايد. فبدل أن يُقصي البُنى الاجتماعية المتنوعة، حولها إلى نواة دولة حديثة. لم يفرض الشعب فرضًا، بل أنشأه من الداخل، من طبيعة المجتمع ذاته. هكذا وُلد الشعب الإماراتي بصفته مشروعًا مشتركًا، لا كتجميع سياسي عابر.
"الإرادة العامة" — حين تتحوّل الفلسفة إلى واقع عربي
اعتبر روسو أن الشرعية السياسية تقوم على الإرادة العامة، وليس على الإكراه أو الميراث وحده. هي لحظة تتجاوز فيها الجماعة ذاتها القديمة لتصبح “شعبًا واحدًا”.
الشيخ زايد التقط هذه الفكرة intuitively، بحسّ المؤسس الذي يعرف طبيعة الإنسان. فعندما جمع الإمارات السبع، لم يعتمد على القوة، بل على القناعة، وعلى إدراك عميق بأن الخير العام أكبر من مصالح كل إمارة على حدة.
هكذا ظهرت الإرادة الاتحادية كروح سياسية مشتركة، لا تزال إلى اليوم تمنح الدولة ثباتها واتجاهها. وهذا تمامًا ما قصده روسو: أن يولد شعب من اتفاق، لا من صراع.
الشيخ زايد "المشرّع الحكيم" — الفكرة التي حلم بها روسو
في أحد أهم فصول "العقد الاجتماعي"، يتحدث روسو عن "المشرّع الحكيم" الذي يعرف كيف يحوّل الجماعة إلى دولة من دون بطش، ومن دون إلغاء هويتها. هذا المشرّع لا يكتب القوانين فقط، بل يزرعها في القلوب.
الشيخ زايد جسّد هذا النموذج بشكل نادر. لم يملأ الصحراء بالشعارات، بل ملأها بالماء، بالبنية التحتية، بالمدارس، وبأفق إنساني جديد. أعطى للناس كرامتهم قبل أن يعطيهم الدولة، وبنى اتفاقًا صامتًا بين الحاكم والمواطن: احترام متبادل، التزام متبادل، ومصير مشترك. هكذا تحققت فلسفة روسو بأدوات عربية، وبلغة الصحراء، وبروح قائد رأى الإنسان قبل السياسة.
العقد الاجتماعي الإماراتي — فلسفة تتحوّل إلى مستقبل
منتصف القرن العشرين، وفي زمن كانت فيه المنطقة العربية تعيش تحوّلات قاسية، وُلد في الإمارات شكل جديد من العقد الاجتماعي: عقد يقوم على الرعاية، والعدالة، وكرامة الإنسان، وعلى شراكة بين الدولة والمواطن في صناعة الغد.
لم يكن الاتحاد مجرد قرار سياسي، بل كان اتفاقًا وجوديًا على بناء وطن قادر، كريم، مزدهر، ينتقل من الندرة إلى التنمية، ومن العزلة إلى العالمية. كان الاتحاد وعدًا: أن يكون “الخير المشترك” أقوى من كل انقسام، وأن يكون الإنسان مشروع الدولة، لا مجرد رقم فيها. وهذا هو لبّ العقد الاجتماعي عند روسو، وقد تحقّق عمليًا في الإمارات.
خاتمة
قد يظن البعض أن المسافة بين جنيف والصحراء أبعد من أن يجمعها فكر أو قدر. لكن التاريخ، حين يكتبه الكبار، يمحو المسافات.
روسو حلم ببناء الإنسان عبر عقد يقوم على الكرامة والإرادة المشتركة. والشيخ زايد بنى دولة تجسّد هذا العقد بحكمة القيادة وعمق الرؤية وإيمان لا يتزعزع بأن الإنسان يستحق دائمًا الأفضل.
في المقارنة بينهما، ليس الأمر مجرد تشابه عابر، بل حقيقة فلسفية: القادة الكبار هم أولئك الذين يحوّلون الأفكار الكبرى إلى واقع، والحلم إلى مشروع، والشعب إلى قدر.
الشيخ زايد ربما لم يكن قارئًا لروسو، لكنه كان ما سُمّي يومًا: المشرّع الذي يخلق الشعب، لا بالقوة، بل بالحكمة، والإيمان بأن الإنسان هو أول الدولة وآخرها، ومعناها الأعمق.
نبض