ألمانيا تعيد ضبط استخباراتها الخارجية الـ BND إلى ذراع هجومية؟
لم يعد التحول في دور الاستخبارات الخارجية الألمانية (BND) مجرد نقاش تقني أو تعديل قانوني عابر، بل بات مؤشراً واضحاً على انتقال ألمانيا من سياسة الضبط الاستخباراتي التاريخي إلى مقاربة أكثر هجومية، تفرضها بيئة أمنية أوروبية تتآكل فيها الحدود بين الحرب والسلم، وبين الأمن الداخلي والخارجي.
برلين، التي لطالما قدمت نفسها نموذجاً للحذر الديموقراطي في العمل الاستخباراتي، تستعد اليوم لمنح جهاز الـ BND صلاحيات غير مسبوقة، تشمل تنفيذ هجمات إلكترونية هجومية وعمليات تخريب ضد خصوم محتملين، حتى خارج سياق النزاع العسكري التقليدي. هذا التحول لا يعكس فقط إدراكاً متأخراً لطبيعة التهديدات الهجينة، بل يكشف أيضاً عن قناعة سياسية بأن الدفاع السلبي لم يعد كافياً في عصر الحروب السيبرانية.

وفق التصورات الحكومية، سيتمكن الـBND من شن هجمات مضادة مباشرة في حال تعرض ألمانيا لهجوم سيبراني واسع، بعد إعلان "حالة استخباراتية خاصة" وموافقة برلمانية مشددة. غير أن السؤال الجوهري لا يتعلق بالإجراءات الشكلية للرقابة، بل بطبيعة الانزلاق التدريجي نحو عسكرة العمل الاستخباراتي، وتحويله من أداة تحليل واستشراف إلى أداة ردع وتنفيذ.
الأكثر إثارة للقلق هو التوسع الكبير في أدوات المراقبة الداخلية والخارجية. فالسماح بالوصول إلى بيانات المواقع الجغرافية للمركبات، واستخدام تقنيات التعرف على الوجوه، والدخول السري إلى المنازل لتثبيت برامج تجسس، يضع الدولة الألمانية أمام اختبار حقيقي لالتزامها بالقيم الدستورية التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية تحديداً لمنع تسلل الأجهزة الأمنية.
المفارقة أن هذا التحول يجري في لحظة أوروبية حساسة، حيث تتصاعد المخاوف من التدخلات الروسية، والتهديدات السيبرانية الإيرانية، ونشاط شبكات التجسس الصينية. إلا أن تحويل الاستخبارات إلى ذراع هجومية مفتوحة الصلاحيات قد يفتح الباب أمام سباق استخباراتي غير معلن، يرفع منسوب المخاطر بدل احتوائها، ويزيد من احتمالات الاحتكاك غير المباشر مع قوى دولية تمتلك بدورها قدرات سيبرانية متقدمة.
تعيين الديبلوماسي المخضرم مارتن ييغر، السفير السابق لدى أوكرانيا، رئيساً للـBND، ليس تفصيلًا إدارياً عابراً، بل رسالة سياسية مفادها أن ألمانيا تريد استخبارات أكثر انخراطاً في الصراعات الجيوسياسية، وأقل تقيداً بدور "الراصد المحايد". وهو توجه قد يضع برلين في موقع القيادة الاستخباراتية داخل الاتحاد الأوروبي، لكنه في الوقت ذاته يجعلها هدفاً مباشراً لحروب الظل.
الانتقادات الصادرة عن منظمات حقوق الإنسان وأحزاب المعارضة تعتقد أنه كلما اتسعت صلاحيات الاستخبارات، تراجعت المساحة الرمادية بين الأمن المشروع والمراقبة.
ألمانيا اليوم أمام بناء نموذج استخباراتي هجومي مضبوط بقواعد صارمة وشفافة، وتٌضيف بصمته على مستقبل الأمن الأوروبي.
*باحث في الأمن الدولي والإرهاب
-المقاربة الواردة لا تعكس بالضرورة رأي مجموعة "النهار" الإعلامية.
نبض