دعم بلا حسم... أوروبا وأوكرانيا
بعد محادثات أوروبية ماراثونية انتهت إلى اتفاق ضخم لدعم أوكرانيا، بدا المشهد أقرب إلى تسوية اضطرارية منه إلى انتصار سياسي.
فالاتحاد الأوروبي، الذي وجد نفسه في قلب حرب لم يختر توقيتها ولا مسارها، بات يتعامل مع دعم كييف بوصفه مسألة أمن قومي مباشر، لا مجرد تعاطف أخلاقي أو التزام سياسي عابر. ومع ذلك، فإن هذا الدعم، على ضخامته، يكشف أكثر مما يخفي عمق المأزق الأوروبي وتناقضاته الداخلية.
من منظور أوروبي، لا يملك صناع القرار ترف التراجع، فأي انهيار أوكراني سيترجم فوراً تهديداً مباشراً للحدود الشرقية للاتحاد، ويقوض صدقية أوروبا كفاعل جيوسياسي، لكن خلف هذا الإدراك الاستراتيجي، يطفو إرهاق سياسي ومالي متزايد يصعب تجاهله.
تتصاعد أصوات تشكك في قدرة القارة على الاستمرار في ضخ مليارات اليوروهات، في دول محورية مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، في ظل أزمات داخلية اقتصادية واجتماعية خانقة، فالدعم مستمر، نعم، لكنه بات أثقل تكلفة وأقل حماسة.
أما في كييف، فالصورة أكثر تعقيداً، وأوكرانيا تحتاج هذا الدعم بشكل عاجل، لكنها تنظر إليه ببراغماتية حذرة، فالتجارب السابقة علمتها أن الوعود الأوروبية غالباً ما تصطدم ببطء التنفيذ وتعقيدات البيروقراطية.
كما يساور أوكرانيا القلق من أن يتحول هذا الدعم إلى مجرد تعويض عن تباطؤ الالتزام الأميركي أو تراجعه، وليس إلى إضافة نوعية قادرة على تغيير موازين القوة ميدانياً.
هذا التردد الأوروبي يظهر بوضوح في فشل التوافق على استخدام الأصول الروسية المجمدة، فهنا ينكشف انقسام عميق داخل الاتحاد بين من يدعو إلى الذهاب بعيداً في معاقبة موسكو، ومن يخشى العواقب القانونية والمالية لمثل هذه السابقة.
الدول المتحفظة ترى أن مصادرة أصول سيادية روسية قد تضرب الثقة بالنظام المالي الأوروبي، وتعرض اليورو والأسواق لمخاطر طويلة الأمد، فضلاً عن فتح الباب أمام ردود فعل روسية قانونية أو اقتصادية غير محسوبة.
أوروبا تريد معاقبة روسيا، لكنها لا تريد في الوقت نفسه أن تهدم القواعد التي يقوم عليها النظام المالي الغربي.
في موازاة ذلك، برز تطور لافت مع انطلاق محادثات سلام جديدة بين واشنطن وموسكو، هذه المرة بمشاركة أوكرانيا والأوروبيين، هذا التحول يعكس إدراكاً أميركياً أن الحرب دخلت مرحلة استنزاف طويلة، وأن حسمها عسكرياً لم يعد هدفاً واقعياً.
إشراك الحلفاء لا يعني اقتراب السلام بقدر ما يعني إدارة الصراع وتجميده، ومنع أي تسوية ثنائية قد تقوض شرعية الغرب أو تهمش الدور الأوروبي.

وفي هذا السياق، تبدو تصريحات وزير الخارجية الأميركي بعدم إجبار كييف على أي اتفاق سلام أقرب إلى موقف تكتيكي منها إلى التزام مبدئي، فواشنطن حريصة على عدم الظهور بمظهر من يفرض تنازلات علنية على حليفها، لكنها تمارس في الوقت ذاته ضغطاً غير مباشر، عبر ربط الدعم العسكري بالواقعية السياسية، والتلميح إلى توقيت مناسب للتفاوض، وفتح قنوات مع موسكو بعيداً عن الأضواء.
الرسالة واضحة، أوكرانيا حرة في القرار، ولكن من ضمن هامش خيارات ترسمه واشنطن.
في ظل استمرار الضربات الروسية وتقدمها الميداني النسبي، تدخل كييف أي مسار تفاوضي من موقع دفاعي. صحيح أنها لا تزال تمتلك أوراقاً مهمة، أبرزها الشرعية الدولية، والدعم الغربي، وقدرتها على استنزاف روسيا على المدى الطويل، إضافة إلى الخشية الغربية من انتصار روسي كامل. لكن في المقابل، تمتلك موسكو تفوقاً ميدانياً نسبياً، وعمقاً استراتيجياً واقتصادياً، وقدرة على فرض وقائع على الأرض قبل أي تسوية.
يبقى القول إن أي مفاوضات قادمة ستكون غير متكافئة بطبيعتها، والسيناريو الأرجح ليس سلاماً شاملاً يعيد الأمور إلى ما كانت عليه، بل تسوية مرحلية أو تجميد للصراع، بشروط قاسية على أوكرانيا ومقلقة لأوروبا، وفي هذا المشهد، تبدو القارة العجوز عالقة بين دعم لا يمكن التراجع عنه، وتسوية لا تملك شجاعتها الكاملة، في انتظار أن يفرض الواقع كلمته الأخيرة.
*باحث ومستشار سياسي
-المقاربة الواردة لا تعكس بالضرورة رأي مجموعة "النهار" الإعلامية.
نبض