من النزاعات إلى التعاون: حدود مشتعلة وسلام مائي ممكن
بارعة الأحمر
تشهد منطقة غرب آسيا أحد أعلى مستويات التوتر المرتبط بالمياه في العالم، بفعل تزامن التغيّر المناخي مع النمو السكاني وضعف الحوكمة المائية وغياب الإدارة المستدامة للموارد المشتركة. عوامل تحوّل المياه من مورد طبيعي إلى متغير جيوسياسي لا يقلّ أهمية عن الحدود والسيادة، بل أكثر هشاشة وتأثيرًا على الاستقرار. وفي حين تبدو المياه قادرة على إشعال النزاعات، يشير تقرير البنك الدولي لعام 2021 حول الأمن المائي في الشرق الأوسط إلى أن "أمن المياه عنصر جوهري من عناصر الأمن القومي، وأن النزاعات العابرة للحدود قد تتحول إلى منصّات تعاون إذا توفّر الإطار المؤسساتي المستدام". وهي مقاربة تحويل النزاعات حول المياه من محرّكات صراع إلى رافعة لبناء الثقة عبر منطق الاعتماد المتبادل.
ويتجلّى هذا المنطق في العلاقة بين العراق وتركيا، حيث تستند أنقرة إلى مشاريع السدود الكبرى ضمن برنامج تنمية جنوب شرق الأناضول، بينما يعتمد العراق على تدفقات دجلة والفرات كعنصر حيوي لأمنه المائي. وقد غيّر مشروع "غاب" التركي بشكل جذري ميزان تدفق المياه، وشكل بناء سد (إليسو) لحظة انعطاف حادة في التوتر بين البلدين.
تتعامل تركيا مع الأنهار كموارد سيادية، إلا أن التقارير الأممية تؤكد أن خفض التدفقات ينعكس مباشرة على الأمن الغذائي العراقي. ومع ارتباط الاستقرار التركي بهدوء الجيران، يصبح الطرفان مضطرَّين للتعاون عبر نماذج الإدارة المشتركة التي تعترف بالترابط البيئي للنهرين بدل التمسّك بمنطق الحصص الثابتة. ما يفتح الباب أمام إدارة مشتركة للتدفق والتخزين والفيضانات انطلاقًا من إدراك واقعي بأن العراق لا يستطيع الاستغناء عن التدفقات، وتركيا لا تستطيع تحمل كلفة توتر مزمن مع جار أساسي.
أما الأردن وإسرائيل فيقدّمان نموذجًا فريداً، إذ شكّلت معاهدة وادي عربة لعام 1994 إطارًا لتقاسم مياه نهر الأردن واليرموك، وأحد أنجح الأمثلة الإقليمية على استخدام المياه كقناة تعاون ضمن سياق سياسي معقّد. فقد أسست المعاهدة لنظام تبادل مائي واضح وآليات تنسيق سنوية، مما جعل المياه مساحة تواصل حتى حين كانت بقية الجسور السياسية تنهار. ورغم الضغوط المناخية والسياسية الداخلية، حافظ الطرفان على مستوى ثابت من التعاون لأن كليهما يدرك أن فشل الإدارة المشتركة سيضرب أمنه المائي مباشرة. وهكذا تصبح المياه عامل استقرار نسبي وشاهداً على قدرة الحاجة على فرض التعاون حتى في بيئات متوترة.
في المقابل، يقف لبنان وسوريا وإسرائيل أمام واحد من أعقد النزاعات المائية في المنطقة، إذ يشكّل حوض الحاصباني–الوزاني–البانياس(الجولان)، الذي تتداخل فيه منابع من لبنان وسوريا وتصب في نهر الأردن، عقدة سياسية وأمنية تتجاوز حدود الموارد. فلبنان يعجز منذ عقود عن تطوير سياسة مائية مستدامة، وسوريا غائبة عن إدارة مواردها منذ اندلاع الحرب، فيما تنظر إسرائيل إلى أي استخدام لبناني للمياه باعتباره تهديدًا ذا بعد أمني. هذا التداخل بين المنابع والحدود والصراع العسكري يجعل الحوض نموذجًا للأحواض المتنازع عليها حيث يصعب فصل إدارة الموارد عن الأمن القومي. وهي تعقيدات تبرهن أن المنطقة بحاجة إلى إطار مؤسساتي محايد يتعامل مع الأنهار كمنظومة بيئية واحدة لا كحصص وطنية.
في هذا السياق تبرز مبادرة «السلام الأزرق» (بلو بيس) باعتبارها أحد أهم الأطر الحديثة التي تعيد تعريف المياه كبنية للسلام لا ذريعة للصراع. تعمل المبادرة على جمع الدول حول نقاش علمي محايد، حيث تتحوّل البيانات الهيدرولوجية المشتركة إلى بديل عن الاتهامات السياسية، ويصبح الخبراء وسطاء لإنتاج معرفة مشتركة. كما تدفع الدول إلى الخروج من حسابات الربح السريع باتجاه منطق المصلحة المستدامة، فالحفاظ على النظام البيئي للأنهار أكثر فائدة من الزيادة في الضخ. وتُنشئ المبادرة ما يشبه «السلام التقني» عبر منصات حوار دائمة وقواعد بيانات موحدة ومشاريع مشتركة لمعالجة المياه وتحسين تقنيات الري، ما يجعل المؤسسات العلمية المشتركة ركيزة لتقليل التوتر في منطقة تفتقر إلى الثقة.
ولقد ساهم تمويلها من الوكالة السويدية للتنمية والتعاون الدولي والوكالة السويسرية للتنمية والتعاون في توفير استقلالية علمية للمبادرة، ومكّنها من تطوير منصّات للحوار الإقليمي تُبعد الملف المائي عن التجاذبات السياسية المباشرة وبناء قواعد بيانات مشتركة وتأسيس مسارات حوار غير رسمي تُمهّد غالبًا لاتفاقات رسمية. ويكتسب هذا العمل أهمية استثنائية في منطقة تغيب فيها الثقة بين الدول وتتراجع فيها آليات التنسيق العلمي.
من هذا المنظور، يتضح أن المياه ليست سببًا حتميًا للنزاع بقدر ما هي اختبار لقدرة دول غرب آسيا على تجاوز إرث العداوات وبناء مصالح مشتركة. فحين يُرفع الملف من دائرة الأمن القومي إلى إطار الأمن الإنساني والبيئي الشامل، يصبح التعاون ضرورة وجودية.
قد لا تمتلك المنطقة، بكل تناقضاتها، حلولًا سريعة، لكنها تمتلك فرصة نادرة لتحويل الأنهار من خطوط للتماس إلى جسور تنموية وبيئية وسياسية. وما يبدو اليوم صراعًا محتومًا قد يتحول، إذا استُثمر علميًا وسياسيًا، إلى واحدة من مسارات بناء السلام الأكثر واقعية وقابلية للحياة وتصور طويل الأمد للاستقرار في غرب آسيا.
نبض