جون لوك وجون كينيدي: الحرية بين الفكرة والممارسة... حين تتحوّل الفلسفة إلى رئاسة

آراء 10-12-2025 | 19:00

جون لوك وجون كينيدي: الحرية بين الفكرة والممارسة... حين تتحوّل الفلسفة إلى رئاسة

في القرن السابع عشر، وبعد حروبٍ دموية مزّقت أوروبا بين الملوك والشعوب، كتب جون لوك إعلانًا فلسفيًا للكرامة الإنسانية.
جون لوك وجون كينيدي: الحرية بين الفكرة والممارسة... حين تتحوّل الفلسفة إلى رئاسة
جون لوك. (وكالات)
Smaller Bigger

الخوري ريمون أبي تامر 

هل يمكن أن تتحوّل الحرية من فكرة فلسفية إلى ممارسة سياسية؟ وهل تستطيع الفلسفة أن تجد في القيادة ترجمتها الأخلاقية؟

 

بين جون لوك، الذي كتب عام 1689 «مقالتين في الحكم المدني» واضعًا أسس الدولة الحديثة، وجون كينيدي، الذي انتُخب عام 1960 رئيسًا شابًا لحلمٍ أميركي جديد، تمتدّ خيوط هذه الإشكالية: من الفكرة إلى التاريخ، من العقد الاجتماعي إلى الفعل السياسي.




من لوك إلى كينيدي: الفكرة التي صارت دولة
في القرن السابع عشر، وبعد حروبٍ دموية مزّقت أوروبا بين الملوك والشعوب، كتب جون لوك إعلانًا فلسفيًا للكرامة الإنسانية: يولد الإنسان حرًّا، ولا سلطة شرعية إلا تلك التي تقوم على الرضى والعقد والحق الطبيعي.

رأى أن الحكومة لا تُنشأ لتقييد الإنسان، بل لحماية حريته وملكيته وحقّه في الحياة.

بهذا المعنى، كانت فلسفة لوك ثورة هادئة ضد الاستبداد، وميلادًا للديمقراطية الليبرالية التي جعلت المواطن شريكًا في الحكم لا رعية للسلطة.


بعد قرنين ونصف، سيأتي جون كينيدي ليمنح هذه الفكرة لحمًا ودمًا.

فالشاب الذي دخل البيت الأبيض عام 1961 لم يكن مجرّد سياسي في زمن الحرب الباردة، بل كان حاملًا لفكرة فلسفية لبست ثوب السياسة.

 

في خطابه الافتتاحي أعلن رؤيته للعالم الحر:

" حقوق الإنسان لا تأتي من كرم الدولة بل من يد الله".

جملة تُذكّر مباشرة بجون لوك، الذي رأى أن الحقوق الطبيعية سابقة على أيّ سلطة، وأنّ الدولة مجرّد وكيلٍ لحمايتها.

 

 

كينيدي وامتحان السلطة: من المبدأ إلى القرار
لم تكن الحرية عند كينيدي شعارًا انتخابيًا، بل التزامًا أخلاقيًا يُختبر في لحظات الأزمات.

في أزمة الصواريخ الكوبية (1962)، حين اقترب العالم من حافة حربٍ نووية، رفض كينيدي منطق القوة المجنونة، واختار منطق العقل والحوار. فرض حصارًا بحريًا منضبطًا وفتح باب التفاوض حتى تمّ سحب الصواريخ.

لقد جسّد في تلك اللحظة جوهر فكر لوك: أن السلطة العاقلة هي تلك التي تحمي الحياة لا التي تدمّرها.


وفي الداخل الأميركي، وقف كينيدي إلى جانب قانون الحقوق المدنية، مدافعًا عن مساواة المواطنين السود، مؤمنًا بأنّ الدولة التي تميّز بين أبنائها تنقض العقد الذي تقوم عليه شرعيتها.

وفي مشروع “فيلق السلام” الذي أطلقه عام 1961، أراد أن يجعل من الخدمة العامة مدرسةً في الحرية، فالمواطنة عنده ليست امتيازًا بل تربية على المسؤولية.


حتى في سباق الفضاء، لم يكن هدفه تقنيًا بحتًا. أراد كينيدي أن يبرهن أن العقل الإنساني، لا السلاح، هو ما يمنح الأمم عظمتها. قال يومها: "نختار الذهاب الى القمر لا لأنّه سهل، بل لأنّه صعب".


تلك العبارة تختصر رؤية لوك في المعرفة كقوة تحرّر الإنسان من الجهل والخوف.




من لوك إلى كينيدي: الحرية بين الفكرة والممارسة
لم يكن الرابط بين جون لوك وجون كينيدي مجرد تشابهٍ في المواقف، بل امتدادًا فلسفيًا من الفكر إلى الممارسة.

فلوك، في «مقالتين في الحكم المدني»، أراد أن يجعل من الحرية أساسًا للشرعية، ومن الدولة حارسةً للعقد الأخلاقي الذي يجمع المواطنين بالحاكم. رأى أن الإنسان يولد مزوّدًا بالعقل والضمير، وأنّ أي سلطة تفقد معناها حين تنفصل عن هذين البعدين.


أما كينيدي، فحوّل هذه الفلسفة إلى فعلٍ في زمنٍ مضطرب.
آمن بأن السياسة لا تكون نبيلة إلا إذا كانت خادمة للكرامة الإنسانية.

في أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، رفض الانجرار إلى منطق الحرب، وفضّل طريق الحوار والعقل، مجسّدًا فكرة لوك في أن القوة لا تبرّر الحكم، بل المسؤولية.

وفي دعمه لحقوق المواطنين السود، رأى أن المساواة ليست منّة من الدولة بل حقٌّ طبيعي سابق عليها، تمامًا كما أعلن لوك في القرن السابع عشر.


ولأن الفكر عند كينيدي لا ينفصل عن الفعل، عبّر عن رؤيته في كتبه التي سبقت رئاسته.

في «Profiles in Courage» (1956)، احتفى بشجاعة السياسيين الذين فضّلوا صوت الضمير على ضغط الجماهير، مؤكدًا أن الأخلاق هي جوهر القيادة.

وفي «Why England Slept» (1940)، حذّر من التردّد أمام الشر، رابطًا بين السياسة واليقظة التاريخية.

كان كينيدي أول رئيسٍ كاثوليكي للولايات المتحدة، وجعل من إيمانه بعدًا إنسانيًا رحبًا لا طائفيًا، فالإيمان عنده التزامٌ بالخدمة العامة قبل أن يكون انتماءً عقائديًا.



وبعد اغتياله عام 1963، تحوّل فكره إلى إرثٍ تشريعي حيّ.
فقد أُقرّ قانون الحقوق المدنية سنة 1964، مُحقّقًا حلمه بالمساواة، واستمرّ برنامج “فيلق السلام” الذي أسّسه ليجعل من المواطنة فعل مشاركة ومسؤولية.

 

هكذا اكتمل الجسر بين الفلسفة والتاريخ: كتب لوك عن الحرية كفكرة، وجعل كينيدي منها مشروعًا سياسيًا وأخلاقيًا، تُترجم فيه الكرامة إلى سياسة، والضمير إلى قانون.




الاغتيال: الفكرة التي لا تُقتل
في 22 تشرين الثاني 1963، دوّى الرصاص في دالاس، وسقط جون كينيدي في سيارةٍ مكشوفة أمام أعين العالم.

لكن الرصاصة التي اخترقت الجسد لم تخترق الفكرة.

بدت تلك اللحظة وكأنّ التاريخ أراد أن يضع توقيعه المأساوي على مسار قائدٍ آمن بأنّ الإنسان يمكن أن يصنع السلام بالعقل، لا بالعنف.

اغتيل كينيدي، لكن بقي فكره شاهدًا على أن الحرية التي كتب عنها لوك لا تزال تُدفع ثمنها دمًا في كل عصر.

لقد رحل الرجل، وبقيت رسالته: أن السياسة لا تكتمل إلا حين تلتقي الأخلاق بالعقل، والحرية بالتضحية.



الخاتمة
في وجه كينيدي نرى ملامح لوك وقد خرجت من الكتب إلى التاريخ.
فما كان عند الفيلسوف فكرة عن الحرية والشرعية والعقد الاجتماعي، صار عند الرئيس ممارسةً سياسية ومسؤولية أخلاقية.

في فكر لوك، الحرية حقّ طبيعي يولد مع الإنسان، وفي سيرة كينيدي، هي التزام يُترجم في القرار والموقف.

كلاهما آمن أن السياسة لا تُقاس بالقوة، بل بقدرتها على خدمة الكرامة البشرية.


وحين دوّى الرصاص في دالاس عام 1963، بدا المشهد وكأنه امتحانٌ أخير للفكرة:

هل يمكن قتل الفلسفة حين تتحوّل إلى فعل؟
لكن الرصاصة التي اخترقت الجسد لم تخترق المعنى.
ظلّت الحرية التي كتب عنها لوك، وعاشها كينيدي، ضميرًا إنسانيًا يقاوم الموت، ودعوةً دائمة إلى أن تلتقي الأخلاق بالعقل، والإيمان بالفعل، والسياسة بالعدالة.


ذلك هو وجه كينيدي وسرّ فكره السياسي: أن القيادة ليست سلطةً على الناس، بل التزامٌ من أجلهم؛

وأنّ الفلسفة، حين تجد في السياسة جسدها الحي، تُصبح هي أيضًا طريقًا إلى كرامة وحرية الإنسان.

                       
العلامات الدالة

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 12/10/2025 6:25:00 AM
تحاول الولايات المتحدة تذويب الجليد في العلاقات بين إسرائيل والدول العربية من خلال "الديبلوماسية الاقتصادية"
تحقيقات 12/10/2025 8:10:00 AM
يعتقد من يمارسون ذلك الطقس أن النار تحرق لسان الكاذب...
شمال إفريقيا 12/10/2025 6:38:00 AM
على خلاف أغلب الدول العربية، لم يحدث أي اتصال بين تونس ودمشق، ولم يُبادر أيٌّ من البلدين بالتواصل مع الآخر بشكل مباشر أو غير مباشر.
شمال إفريقيا 12/10/2025 6:44:00 AM
الرغبة الجامحة لدى البابا في زيارة الجزائر قابلتها العديد من التساؤلات حيال الخلفيات التي جعلته يولي هذا الاهتمام ببلد عربي أفريقي لم يذكر غيره بهذا الزخم المعرفي من قبل.