الجغرافيا السياسية للبنان وتحوّلات المشرق العربي بعد تراجع المشروع الشيعي الإيراني والدور التركي

آراء 10-12-2025 | 06:00

الجغرافيا السياسية للبنان وتحوّلات المشرق العربي بعد تراجع المشروع الشيعي الإيراني والدور التركي

خلال السنوات الأخيرة، تراجع المشروع الشيعي الإيراني بعد تمدّده في العراق وسوريا واليمن ولبنان، الأمر الذي أعاد فتح النقاش حول موقع لبنان ووظيفته في النظام الإقليمي. 
الجغرافيا السياسية للبنان وتحوّلات المشرق العربي بعد تراجع المشروع الشيعي الإيراني والدور التركي
خريطة المشرق العربي
Smaller Bigger

نزيه الخياط* 

يُعدّ المشرق العربي أحد أكثر الأقاليم حساسية في العالم نظراً إلى تداخل الجغرافيا السياسية بالتاريخ والهويات الديموغرافية وبنية الدول. فصراعات الهوية والمشاريع الخارجية ليست طارئة على هذا الإقليم، بل هي جزء من بنيته العميقة. وفي صميم هذه المعادلة يقف لبنان، الدولة الصغيرة بمساحتها والكبيرة بتعقيدها، إذ تتقاطع مشاريع القوى الإقليمية وتتفاعل الهويات الداخلية ضمن بنية سياسية هشّة منذ إنشاء الكيان عام 1920.

وخلال السنوات الأخيرة، تراجع المشروع الشيعي الإيراني بعد تمدّده في العراق وسوريا واليمن ولبنان، الأمر الذي أعاد فتح النقاش حول موقع لبنان ووظيفته في النظام الإقليمي. وفي هذا السياق، برزت فرضية تشكّل تكتل خماسي عربي–تركي يضمّ مصر، السعودية والخليج، سوريا، الأردن، وتركيا، بوصفه صيغة محتملة لإعادة إنتاج توازن جديد في المشرق، وإرساء إطار يعيد الاعتبار للدولة الوطنية العربية، ويحدّ من فائض القوة الإيراني والإسرائيلي في آن معاً.

1. الجغرافيا السياسية للبنان: تحديد المفهوم ودلالاته

1.1. مفهوم الجغرافيا السياسية في الحالة اللبنانية:

تستند الجغرافيا السياسية إلى تأثير المعطيات الجغرافية—الموقع، الحدود، الموارد، العمق الديموغرافي—على سلوك الدول. وفي لبنان تتّخذ هذه المعطيات طابعاً خاصاً يتمثل في:
هشاشة حدوده في بيئة صراعية تفاعلية شديدة الاضطراب؛
تشابك طائفي–مذهبي–قومي يتجاوز حدود الدولة؛
موقع فاصل بين سوريا وفلسطين من جهة والبحر المتوسط من جهة أخرى؛
قابلية عالية للتدخلات الخارجية؛
تحوّل دائم إلى ساحة تنافس بين مشاريع عربية وإقليمية ودولية.

وعليه، يتجلى لبنان كدولة تقاطعات أكثر منه دولة مركز، تتأثر أكثر مما تؤثر في محيطها.

2. لبنان بين الجغرافيا والقدر السياسي

2.1. الجغرافيا كقيد ضاغط على تشكّل الدولة:

فرض موقع لبنان عليه معادلة جيوسياسية تقوم على التوازنات أكثر من الانسجام الداخلي، فهو:
على تماس مباشر بين الشرق المضطرب والغرب المتوسطي؛
ضمن فضاء ثلاثي التأثير: سوريا، فلسطين/إسرائيل، المتوسط؛
داخل مجتمع متعدد الطوائف يجعل أي تحوّل إقليمي يُترجَم فوراً في الداخل.

هذه المعادلة جعلت النظام السياسي اللبناني يتشكّل بوصفه نتاجاً لتوازنات خارجية أكثر منه نتاجاً لعقد اجتماعي داخلي ثابت.

3. من إعلان الكيان إلى الحاضر: استمرار الأزمة البنيوية

منذ 1920، نشأ الكيان اللبناني على قاعدة اجتماعية–طائفية متداخلة من دون أن ينجح في تكوين دولة وطنية مكتملة. وقد تظهرت الأزمة البنيوية في:
هشاشة الشرعية الداخلية؛
الارتهان لحمايات خارجية متغيرة؛
انفجارات سياسية وأمنية متعاقبة (1958، 1975، 1982، 2005، 2006، 2019، 2024…)؛
قابلية المؤسسات للاختراق من قوى محلية مرتبطة بمحاور إقليمية.

ومثّل صعود "حزب الله" ذروة هذا الارتهان، إذ أصبح الأداة الأكثر فاعلية للمشروع الإيراني في لبنان والمشرق. ومع تراجع هذا المشروع، يبرز احتمال إعادة ضبط التوازن الوطني شرط توافر إطار عربي–إقليمي قادر على احتضان لبنان ضمن رؤية مستقرة.

4. الديموغرافيا السنية ودورها في إعادة تكوين الدولة الوطنية

يُعدّ السنّة أكبر كتلة ديموغرافية في العالم العربي، ومن ركائز استقرار المشرق. غير أن تفكك الدولة الوطنية خلال العقدين الماضيين أدى إلى:
تراجع حضور هذه الكتلة في العراق وسوريا واليمن؛
صعود تنظيمات متطرفة شوّهت صورتها السياسية؛
توسّع النفوذ الإيراني داخل البيئات العربية المنهارة.

لكن التطورات الأخيرة تشير إلى:
عودة مصر والسعودية كمحور ثقل عربي؛
انحسار الإسلام السياسي؛
حاجة ملحّة إلى كتلة سنية وطنية داعمة لإعادة بناء الدولة؛
تحوّل المزاج العام نحو تثبيت الدولة الوطنية بدل الانخراط في المحاور.

ومن ثمّ تصبح الديموغرافيا السنية عنصراً بنيوياً في تصحيح الاختلال الذي فرضه التمدد الإيراني وفي إعادة تأسيس الدولة العربية الحديثة.


5. الدور التركي: رافعة توازن إضافية للمشرق العربي

عملت تركيا خلال السنوات الماضية على إعادة توجيه سياستها الخارجية، فانفتحت على مصر والسعودية والخليج، وبدأت ترميم علاقتها مع سوريا، ولعبت أدواراً مؤثرة في تحولات داخلية وإقليمية. ويستند وزنها الجيوسياسي إلى:
1. موقع محوري وقوة سكانية واقتصادية وعسكرية معتبرة؛
2. امتداد تاريخي وثقافي في المشرق؛
3. قدرة على لعب دور توازني بين إيران والعالم العربي؛
4. دعم مسار الدولة الوطنية في مواجهة تداعيات التدخلين الإيراني والإسرائيلي؛
5. كونها قوة متوسطية–شرقية مزدوجة التأثير.

وعليه، يشكّل إدماج تركيا في أي منظومة عربية تعزيزاً نوعياً للثقل الإقليمي المطلوب.


6. فرضية تشكّل خماسي عربي–تركي: مصر – السعودية/الخليج – سوريا – الأردن – تركيا

يمثل هذا الخماسي، إن تبلور، أضخم كتلة جغرافية–سكانية–عسكرية في المشرق، قادرة على إنتاج توازن جديد يقوم على ثلاثة مرتكزات:

6.1. تثبيت مفهوم الدولة الوطنية

من خلال:
مواجهة الفوضى والجماعات اللادولتية؛
ترسيخ الحدود والسيادة؛
منع تغلغل المشاريع الخارجية؛
إدراك اخطار التغلغلين الإيراني والإسرائيلي معاً.

6.2. إنشاء هندسة أمنية جديدة للمشرق

قائمة على:
مظلة أمن جماعي؛
آليات لاحتواء الأزمات ومنع تمددها؛
منصة لصياغة تسويات داخلية في الدول المنهارة؛
مرجعية عربية جديدة تتجاوز ثنائية "الاعتدال والممانعة".

7. الخماسي الإقليمي والمعادلة العربية–الإسرائيلية

7.1. نحو توازن استراتيجي جديد:

تمتّعت إسرائيل منذ 1973 بتفوق واسع بفعل:
انهيار البنية العربية و خروج مصر من الصراع بموجب اتفاقية كمب ديفيد 
تفكك العراق وسوريا ولبنان واليمن نتيجة النفوذ الإيراني؛
الدعم الأميركي غير المحدود؛
غياب كتلة وزن مقابلة.

إلا أنّ الخماسي العربي–التركي قادر على كسر هذا التفوّق عبر:
1. امتداد جغرافي محيط بإسرائيل؛
2. وزن ديموغرافي يفوق 250 مليون نسمة؛
3. قدرة على فرض قواعد أمنية جديدة؛
4. قوة ردعية سياسية–عسكرية–اقتصادية–مالية غير مباشرة.

7.2. أثر التوازن الجديد على الاستراتيجية الإسرائيلية

سيُجبر هذا التوازن إسرائيل على:
تعديل عقيدة الردع؛
التعامل مع سوريا كجزء من تكتل لا كساحة مفتوحة؛
إعادة صياغة العلاقة مع مصر والسعودية/الخليج وفق قاعدة احترام المصالح؛
احتساب الدور التركي المتصاعد.

7.3. أهمية التوازن للبنان

يمنح لبنان:
كبح استخدامه كساحة صراع إيراني–إسرائيلي؛
فرصة لضبط حدوده واستعادة سيادته؛
إمكان ترسيم الحدود مع سوريا بدعم عربي؛
تأسيس سياسة خارجية سيادية منسجمة مع انتمائه العربي.

8. انعكاسات التحولات الإقليمية على مستقبل لبنان

مع تراجع المشروع الإيراني وصعود الخماسي، يواجه لبنان ثلاثة مسارات رئيسية:
1. إعادة دمجه في الفضاء العربي وفق مقاربة سيادية جديدة؛
2. إعادة بناء الدولة الوطنية واستعادة احتكار السلاح؛
3. انحسار تدريجي لدور القوى اللادولتية مع تبدّل الموازين الإقليمية.

وقد تشكّل هذه التحولات فرصة تاريخية إذا امتلكت النخب السياسية إرادة الإصلاح البنيوي للدولة وتنفيذ مندرجات الدستور وتحديد موقع ووظيفة لبنان النهائي داخل النظام الإقليمي الناشئ.

بالاستنتاج، تشير التحولات الجارية إلى إعادة تركيب عميقة لموازين القوى في المشرق بعد انحسار المشروع الإيراني وفشل قدرته على إنتاج هيمنة مستدامة. وفي المقابل، يتعزّز دور عربي جديد يرتكز إلى ثنائية مصر–السعودية/الخليج، وإلى شراكة استراتيجية مع تركيا، وإعادة دمج سوريا، وتثبيت الأردن ككيان نهائي غير مطروح كبديل للدولة الفلسطينية.
وفي هذا المشهد، يقف لبنان في قلب التحولات بوصفه الأكثر تأثراً بالمشاريع الإقليمية. ويشكّل قيام منظومة أمنية عربية–تركية قادرة على خلق توازن مع إسرائيل وإيران فرصة تاريخية لإعادة بناء الدولة الوطنية في المشرق، وفي مقدمتها لبنان. وقد يكون هذا التوازن المدخل الوحيد لاستقرار طويل الأمد لم تعرفه المنطقة منذ عقود

*أستاذ جامعي/ باحث في الشؤون الجيوسياسية  


العلامات الدالة

الأكثر قراءة

الخليج العربي 12/8/2025 2:59:00 PM
روبوت يتولّى دور المذيع معتمداً على تقنيات الذكاء الاصطناعي
المشرق-العربي 12/8/2025 10:41:00 AM
فر الأسد من سوريا إلى روسيا قبل عام عندما سيطرت المعارضة بقيادة الرئيس الحالي الشرع على دمشق
المشرق-العربي 12/8/2025 5:03:00 PM
تُهدّد هذه الخطوة بمزيد من التفكك في اليمن.
النهار تتحقق 12/8/2025 10:43:00 AM
الصورة عتيقة، وألوانها باهتة. وبدا فيها الرئيس السوري المخلوع واقفا الى جانب لونا الشبل بفستان العرس. ماذا في التفاصيل؟