جبران تويني... تشريح أسلوب صحافي يجمع بين الحبر والدم

جبران تويني... تشريح أسلوب صحافي يجمع بين الحبر والدم
الذكرى الـ20 لجبران تويني.
Smaller Bigger
فاروق غانم خداج 
كاتب لبناني وباحث في الأدب والفكر الإنساني

في زمنٍ كانت فيه الحقيقة تُكمَّم، والحرية تُدفن تحت ركام الحسابات الإقليمية والداخلية، خرج جبران تويني ليحوّل الكلمة إلى جبهة مقاومة. لم يكن مجرّد صحافي، بل رجلٌ اعتبر القلم امتدادًا للحرية، ودفع حياته ثمنًا لالتزامه. وفي مقالاته المجموعة في كتاب «بالحبر والدم: استقلاليات» (تويني، 2006)، تبرز ملامح مدرسة صحافية فريدة: مدرسةٌ لا تفصل بين الموقف الأخلاقي والتحليل السياسي، ولا بين اللغة والالتزام، ولا بين الحبر والدم.

جرأة اللغة ووضوح الموقف

تميّز جبران بقدرته على قول ما لا يجرؤ كثيرون على النطق به. كان يكتب بلغة صريحة، خالية من الالتفاف والمواربة. ففي مقاله الشهير «لبنان الكلمة» يقول:
"نحن أمام خيارين: إمّا أن نكون أو لا نكون…" (تويني، «لبنان الكلمة»، النهار، 2 يونيو 2001).
هذه العبارة لم تكن شعارًا، بل إعلانًا لمرحلة سياسية مفصلية تتطلّب وضوحًا وجوديًا لا سياسيًا فقط.

وفي مقاله «من يجرؤ على الكلام؟» يذهب إلى تشريح أخلاقي للواقع:
"الفساد لم يعد مجرد سرقة للأموال، بل أصبح سرقة للكرامة والإرادة."  (تويني، «من يجرؤ على الكلام؟»، النهار، 15 مارس 2002).
هذا التعريف يخرج بالفساد من نطاق المالية إلى نطاق الهوية والإنسان، وهي رؤية كانت جديدة وجريئة في سياقها.

بين غسان وجبران: تمايز الأسلوب ووحدة الرسالة

غالبًا ما تُطرَح المقارنة بين غسان وجبران تويني، وهما ركنان في تاريخ النهار.
غسان كان يكتب بنبرة هادئة، عقلانية، مؤسسة على الدبلوماسية والرصانة.
أما جبران، فكتب بلهجة مشتعلة، مليئة بالحدّة الوجدانية، تنطلق من موقع الشاهد لا المحلّل.

ومع ذلك، يتقاطع الاثنان في جوهر واحد: تحويل الصحافة إلى ميثاق دفاع عن لبنان.
لكنّ جبران عاش مرحلة الانقسام الوطني وهيمنة الأجهزة الأمنية والتدخلات الإقليمية المباشرة، فكانت لغته انعكاسًا لزمنه: مكثّفة، صريحة، وأقرب إلى نداء استغاثة وطني.

الاستعارة كأداة كشف

لم تكن الاستعارة عند جبران ترفًا بلاغيًا، بل وسيلةً لفهم الواقع وتعريته.
في مقاله «ظلّ الاحتلال» كتب:
"الاحتلال ليس مجرد وجود عسكري، بل ثقب أسود يبتلع مستقبل الأجيال…" (تويني، «ظلّ الاحتلال»، النهار، 8 سبتمبر 2003).

هذا التشبيه المكثّف يلخّص حالة الخوف التي عاشها اللبنانيون، ويحمل بعدًا سياسيًا ونفسيًا عميقًا.

وفي مقاله «بين الحبر والدم» كتب: "نكتب بالحبر لكننا ننزف دمًا…" (تويني، «بين الحبر والدم»، النهار، 12 ديسمبر 2005).
الجملة تحوّلت لاحقًا إلى رمز لرحلته المهنية والشخصية، وبدت كأنها نبوءة لقدر كان يقترب منه.

هندسة المقال: من المشهد إلى الفكرة

تميّز جبران بقدرة لافتة على الانتقال من الصورة إلى التحليل.
في مقاله "ذاكرة الوطن" يبدأ بمشهد بسيط:
"شاهدت اليوم طفلاً يبني بيتًا من الرمال على شاطئ بيروت…"
(تويني، «ذاكرة الوطن»، النهار، 12 يناير 2004).

ثم يربط المشهد بالواقع الوطني:
"الطائفية نظام فاشل ينتج أنصاف مواطنين وأنصاف أوطان."
بهذه الحركة السردية، يجعل السياسة جزءًا من الحياة اليومية لا علمًا منفصلاً عنها.

اللغة كبوصلة أخلاقية

لغة جبران ليست تقنية، بل موقف.
في مقاله "كلمة أخيرة" يقول:
"إذا كان القلم هو سلاحي، فالحق هو ذخيرتي، والحرية هي هدفي."
(تويني، "كلمة أخيرة"، النهار، 2 ديسمبر 2005).

وفي مقاله "أطفال الحرب" يكتب:
"الأطفال الذين ولدوا خلال الحرب لا يعرفون معنى السلام، وكبروا وهم يحملون أوطانًا ممزقة في قلوبهم الصغيرة."
(تويني، "أطفال الحرب"، النهار، 6 مايو 2003).

بهذه اللغة، يدمج الوجدان بالمعرفة، ويعيد تعريف الصحافة كرسالة إنسانية قبل أن تكون وسيلة إعلامية.

جمهور جبران: القارئ الشريك

كان يكتب للقارئ بوصفه شريكًا في الوعي، لا متلقيًا سلبيًا.
لذلك قدّم له:

تحليلاً سياسيًا واضحًا
لغة أدبية محكمة
موقفًا أخلاقيًا صريحًا
سياقًا تاريخيًا ضابطًا لقراءة الأحداث


ومن هنا بقي تأثيره شاخصًا، لأن كتابته لم تكن تقريرية بل تحريضية على التفكير.

إرث لا يُمحى

ترك جبران تويني إرثًا صحافيًا يؤكّد أن الكلمة لا تُكتب لملء الصفحات، بل لرفع مستويات الوعي.
وأن الصحافة التي لا تحمل مسؤولية أخلاقية تتحوّل إلى صدى فارغ.
جبران كتب بدمه قبل حبره، فسجّل أن الحقيقة قد تكون مكلفة، لكنها الطريق الوحيدة إلى وطنٍ يستحق الحياة.

إن معادلته — الحبر + الدم = صحافة تليق بالإنسان — ليست شعارًا، بل خلاصة حياة كاملة.
وحين سقط شهيدًا، لم تنطفئ كلمته، بل تحوّلت إلى مرآة تُذكّر اللبنانيين بأن الحرية ما زالت معركة، وأن الحبر — حين يستقيم — أقوى من الرصاصة.

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 12/5/2025 7:11:00 PM
مقربون من الأسد لـ"رويترز": الأسد استسلم لفكرة العيش في المنفى
منبر 12/5/2025 1:36:00 PM
أخاطب في كتابي هذا سعادة حاكم مصرف لبنان الجديد، السيد كريم سعيد، باحترام وموضوعية، متوخياً شرحاً وتفسيراً موضوعياً وقانونياً حول الأمور الآتية التي بقي فيها القديم على قدمه، ولم يبدل فيها سعادة الحاكم الجديد، بل لا زالت سارية المفعول تصنيفاً، وتعاميم.
اقتصاد وأعمال 12/4/2025 3:38:00 PM
تشير مصادر مصرفية لـ"النهار"  إلى أن "مصرف لبنان أصدر التعميم يوم الجمعة الماضي، تلته عطلة زيارة البابا لاون الرابع عشر الى لبنان، ما أخر إنجاز فتح الحسابات للمستفيدين من التعميمين
ايران 12/4/2025 7:49:00 PM
واشنطن ترصد 10 ملايين دولار للإبلاغ عن الخبيرة الإلكترونية الإيرانية فاطمة صديقيان المتهمة بهجمات سيبرانية على بنى تحتية أميركية