عام على التحرير... ما الذي تغيّر في سوريا؟
نور الدين الإسماعيل*
في مثل هذا اليوم من العام الماضي كان نظام الأسد المخلوع يلفظ أنفاسه الأخيرة، وذلك قبل إعلان التحرير الكامل بدخول دمشق فجر 8 كانون الأول/ديسمبر الماضي، والذي كان إعلاناً رسمياً عن التخلص من نظام العائلة الذي حكم البلاد 55 عاماً بالحديد والنار والدماء.
يتساءل البعض ممن لم يعيشوا الواقع السوري، ما الذي تغير في سوريا خلال عام؟
لن أدخل في جدلية الاصطفافات والتموضعات أو التصنيفات المسبقة، وسأروي، كشاهد عيان، ما الذي تغير خلال عام، بعيداً عن المثالية.
أهم وأكبر تغيير في سوريا هو توقف آلة القتل الممنهج التي كانت تحصد أرواح السوريين يومياً، طيلة 14 عاماً، فبات بإمكان السوريين، على أقل تقدير سبعة ملايين منهم في شمالي غربي سوريا، الإحساس بالأمان على حياتهم وحياة أبنائهم في المدارس والمنازل والأسواق، من طائرة قرر قائدها اختيار هدفه عن سابق إصرار وتعمّد، أو فوهة مدفع تدور بحثاً عن ضحية، أو طائرة انتحارية مسيّرة بلا طيار تهاجم المزارعين في حقولهم.

خلال عام، لم يعد هناك جحيم يدعى "صيدنايا"، بالرغم من حجم الكارثة التي تكشفت مع التحرير عن مقتل معظم المختفين قسراً فيه والذين تقدر أعدادهم بـ177 ألفاً، إلا أن الإيجابي في الأمر أن أبواب السجن لم تعد تغلق محتجزة أجساداً منهكة مكدسة تنتظر الموت الحتمي، ولم يعد السوري رقماً يتلى على طوابير الإعدامات الميدانية يومياً.
منذ التحرير، تلاشت الأفرع الأمنية بأرقامها المختلفة التي كانت تصطاد السوريين في مناطق سيطرة نظام الأسد، من الحواجز أو من منازلهم أو في طرقاتهم باحثين على لقمة العيش المفقودة، كما تبخرت حواجز الفرقة الرابعة التي كانت تساومهم على حياتهم، فإما أن يدفع السوري الإتاوة وينجو، أو أن يدفع حياته معتقلاً إن رفض.
تخيلوا أني حصلت على جواز سفر بعد التحرير، ومثلي مئات الآلاف من السوريين، نعم جواز سفر، والذي هو في جميع دول العالم حق للمواطن وأحد المسلّمات، إلا في سوريا كان لا بد من دراسة أمنية تجرى عن المتقدم للجواز، وفي حال اجتاز تلك العقبة فعليه دفع مبالغ طائلة على شكل رشى للموظفين والسماسرة للحصول على "جواز سفر"، كما لم يعد هناك قوائم للممنوعين من السفر، أو المطلوبين على المنافذ البرية والمطارات.
منذ اللحظات الأولى لسقوط نظام الأسد المخلوع وانهيار قواته وهروب المرتزقة، بات بإمكان ما يزيد عن 7 ملايين نازح سوري داخلياً، ومثلهم من اللاجئين في الخارج زيارة مدنهم وبلداتهم، حيث تشير تقديرات الأمم المتحدة مطلع كانون الأول الماضي إلى أن عدد النازحين في سوريا يزيد عن 7 ملايين، منهم أكثر من مليونين يقيمون في المخيمات، وأكثر من 5 ملايين آخرين خارج المخيمات، في المدن والبلدات الخارجة عن سيطرة النظام المخلوع.
وبالرغم من عدم قدرة معظمهم على العودة والاستقرار بسبب الدمار الكبير الذي خلفته قوات النظام المخلوع في المناطق التي كانت تحتلها، وأهمها أرياف إدلب وحماة وحلب، وغوطة دمشق، ومحافظة دير الزور، إلا أنه بات بإمكان أبناء تلك المناطق زراعة حقولهم من جديد بعد قطع أشجارهم وبيعها على يد قوات الأسد ومرتزقته.
خلال عام، كسرت سوريا عزلتها الخارجية بعد أن قوقعها نظام الأسد المخلوع ضمن محور استبداد الشعوب باسم القضية الفلسطينية، مع إيران، حيث حققت الدبلوماسية السورية الجديدة نجاحات كثيرة، توجتها زيارة الرئيس أحمد الشرع إلى الولايات المتحدة ولقاء الرئيس دونالد ترامب، وزيارة أعضاء مجلس الأمن لدمشق، وتحقيق خطوات متقدمة على طريق الرفع الكامل للعقوبات المفروضة على سوريا.
في سوريا الجديدة، بات بإمكان معارض سوري الظهور على شاشة التلفزيون السوري منتقداً الحكومة أو الرئيس، كما بات بإمكان أي مواطن سوري أن يعبر عن رأيه في الشارع دون خوف من الاعتقال أو التغييب، رغم تحول البعض من النقد البناء إلى الإساءة المباشرة بدوافع مختلفة، والتي لا بد من ضبطها بقوانين تحافظ على الحريات العامة وتصونها، وبنفس الوقت تحد من الإساءة وتمنع التحريض.
ولم يعد الإعلام السوري اليوم سلاحاً بوجه السوريين، بل تسعى مختلف وسائل الإعلام السورية لأن تكون صوتاً ينقل معاناة الناس، للمساهمة في معالجة أزماتهم ومشاكلهم بموضوعية، دون الانزلاق نحو الشعبوية وإرضاء الجمهور، أو باستبداد يعكس صوت السلطة، لتشكل جسراً بين المواطن وحكومته، ولم يبق في وسائل الإعلام نشرات أخبار تحول احتجاجات المواطنين ومظاهراتهم إلى تجمعات لأهال خرجوا "يشكرون الله على نعمة المطر"، تقزيماً وتضليلاً لقضايا كبيرة.
الذين شعروا بالتغيير هم الناجون من أتون الحرب وجحيمها، بأرواحهم وأرواح عائلاتهم، لذلك فإن ما تغير في سوريا خلال عام هو أكبر من ساعات تقنين كهرباء أو فواتيرها، وأعظم من تصيّد أخطاء فردية لا يقبلها غالبية السوريين وتحويلها إلى ظواهر عامة، وأهم من شبان يتجمعون في ساحة الأمويين يلتقطون الصور التذكارية، أو يرقصون ويدبكون على أنغام أغنية "لبّت لبّت".
ما تغيّر في سوريا خلال عام هو أننا ربحنا وطناً وانتماء كنا نفتقده سنوات طويلة.
*رئيس تحرير صحيفة "الثورة السورية"
نبض