في حضرة وطن لا يلتفت للوراء

مقالات 02-12-2025 | 06:00

في حضرة وطن لا يلتفت للوراء

صُنّفت في عام 2025 ضمن أكبر ثلاثة متبرّعين إنسانيين في العالم بمساهمة بلغت 1.46 مليار دولار في جهود الإغاثة العالمية
في حضرة وطن لا يلتفت للوراء
خيمة مساعدات إماراتية في مخيم جباليا بغزة.(أف ب)
Smaller Bigger

في عيد الاتحاد الرابع والخمسين، تظهر الإمارات كدولة اختارت أن تبني حضورها بجهد هادئ لا بضجيج عابر، وكشجرة راسخة تمتدّ جذورها في الأرض فيما ترتفع فروعها نحو المستقبل. وعلى الرغم من كثرة ما يثار حولها من جدل أو إعجاب، تبقى الإمارات منشغلة بما تراه جوهر رسالتها: صناعة تنمية متواصلة، وتشييد مشروع وطني يمضي بثقة وسط عالم تموج فيه التحديات. وبينما تتبدّل الأصوات من حولها، يبقى إيقاعها الداخلي ثابتاً؛ إيقاع العمل، والابتكار، والإصرار على المضيّ قدماً دون الالتفات إلى ما يُقال أو يُثار.

على مدى أربعة وخمسين عاماً، لم تكن الإمارات دولة تولد في فراغ، بل هي مشروع شُيّد حجراً فوق حجر، واتحاد صُنع بإرادة تتحدّى اتساع الصحراء وضيق الإمكانات الأولى. فمنذ اللحظة التي اختارت فيها الإمارات أن تكون وطناً واحداً لا سبعاً متفرّقة، سارعت إلى بناء نموذجها التنموي داخلياً، ثم امتدّ عطاؤها خارج الحدود ليصبح بذرة تنبت أملاً في البلدان الشقيقة والصديقة. مشاريع في العالم العربي، ودعم في الدول المجاورة، ومبادرات وصلت إلى أقاصي الأرض، حتى صُنّفت في عام 2025 ضمن أكبر ثلاثة متبرعين إنسانيين في العالم بمساهمة بلغت 1.46 مليار دولار في جهود الإغاثة العالمية؛ عطاء لا يسأل عن هوية المحتاج بقدر ما يسأل عن حاجته.
وبالرغم من هذه اليد البيضاء، لا تزال بعض الأطراف مصمّمة على تصوير الإمارات في مشهد مختلف.

اتهامات كثيرة تطال الإمارات، تكبر كفقاعات هواء، ثم تنفجر عند أول تماس مع الحقيقة. ولعل أحدثها ما قيل عن «ثلاثة إماراتيين» اتهموا بالتجسّس في تركيا، قبل أن تخرج أنقرة نفسها— بصوت رسمي — لتعلن أن الادعاء باطل، وأن ما أثير لا يعدو أن يكون ضوضاء في سوق اعتاد المزايدة على كل حدث. وهنا تتجلى حكمة الدولة التي اختارت أن تتعامل مع الضجيج بهدوء محسوب، فآثرت الصمت حين كان الصمت أبلغ. صمت يقوم على الثقة لا على التجاهل، يشبه ثبات الجبال حين يعلو حولها الغبار، فلا تتغيّر ملامحها ولا يختلّ توازنها.

وكثيراً ما أتأمل العالم السياسي من حولي؛ عالم يعاني جفافاً أخلاقياً قاطعاً كحدّ السيف، وانحداراً يزداد اتساعاً حتى باتت بعض الدول تهوي إليه هويّ الساقط من شاهق، راضية أن تسبح في مستنقعات لا ماء فيها ولا طهر. وفي المقابل، ترفض الإمارات الانحدار حتى لو ضاقت عليها الأزمنة، وترفض الولوج في أي معترك لا يشبه مبادئها، فترفع اسمها وترفع معها أرضاً وشعباً وقيادة لم تُخلق لتتنازع على سفاسف الأمور.

وحين حاولت بعض الجهات المتربّصة أن تشعل جدلاً حول ملف الاتفاقيات الإبراهيمية إبان الحرب على غزة، أتتهم الحقيقة كصفعة لا يمكن ردّها: 45٪ من إجمالي الدعم الإنساني العالمي الواصل إلى القطاع كان مصدره أبوظبي. تلك النسبة لم تكن رقماً في بيان، بل كانت شهادة على أن السلام بالنسبة إلى الإمارات ليس توقيعاً على ورق بل هو طريق لمدّ الدواء والغذاء والأمل لقلوب محاصرة. ولولا السلام، لما أمكن للقوافل أن تصل، ولا للغوث أن يمرّ، ولا للإنسانية أن تنتصر ولو لبرهة، كما أن أجمل ما في هذه القصة أن الامارات لم تأبه للاستثمار بها، فترفعت عن المتاجرة بالوقوف مع الشعب الفلسطيني مفضّلة الفعل على القول!

ولست هنا في مقام استحضار كل الملفات، لكن ملف السودان وحده يكفي ليظهر حجم التشويه المتعمّد الذي تحاول بعض الأطراف تغذيته. فبين حكم محكمة العدل الدولية الذي برّأ الإمارات لعدم وجود أدلة، وبين حقيقة أن الحرب هناك ذات طرفين لا طرف واحد، تظهر محاولة واضحة لتغميض عين وفتح أخرى، كمن يريد رواية بلا أبطال ولا مشهد كامل. إن تسليط الضوء على طرف واحد ليس إلا محاولة خائبة لحجب الحقيقة، وجوهر الحقيقة المخزية هنا يكمن في أن الأطراف ما زالت تلهث وراء الحرب، ولم تصل بعد إلى محاولات السلام!
ومع ذلك كله، تبقى الإمارات ثابتة الخطى، لا تعبأ بالأصوات التي تحاول جذبها إلى صغائر النزاعات. فما أحترمه فعلاً، وما يُلهمني في هذا الوطن، هو قدرته العجيبة على الترفّع… الترفّع الذي يشبه الشموخ لا يطاله غبار، ولا تستدرجه الفجوات إلى الأسفل مهما اتسعت.

تستطيع الدول أن تتقن فن الرد، لكن بلادي أتقنت فن التجاهل العظيم… ذلك التجاهل الذي لا يصنعه الضعف بل يصنعه اليقين؛ اليقين بجدوى البناء، بجدوى التقدم، بجدوى أن يكون المستقبل أهم من الجدل، وأن يكون المواطن أهم من الصخب، وأن تكون الحقيقة أكبر من ادعاء.

وفي هذا اليوم، عيد الاتحاد الرابع والخمسين، أجدني أقف أمام وطن لا يركض خلف أحد، بل يركض العالم ليلحق به. وطن كلما ازدادت الاتهامات حوله، ازدادت همته، وكلما علا الضجيج عند أبوابه، علت منجزاته أكثر.
وأنا، ابنة الإمارات، أقولها بملء الفخر: فخورة بدولة لا تنجرف نحو الانهيار مهما اشتدت العواصف، بل تترفع عنه بالبناء، وتنتصر عليه بالازدهار، وتكتب فوق رمال هذا الزمن أن الرفعة خيار، وأن المجد قرار وأن الأوطان العظيمة لا تُقاس بضوضاء الخصوم بل بما تصنعه من نهار.

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

الخليج العربي 12/1/2025 12:53:00 PM
السعودية وروسيا توقعان اتفاقية إعفاء متبادل من التأشيرات لحملة جميع الجوازات
المشرق-العربي 11/30/2025 12:47:00 PM
وزارة النقل العراقية تحسم الجدل: لا وجود لطائرة مركونة في صحراء الوركاء، والصورة المتداولة لطائرة عابرة رصدها القمر الصناعي للحظة واحدة فقط.
المشرق-العربي 12/1/2025 11:51:00 AM
قائد المنطقة الشمالية في الجيش الإسرائيلي، رافي ميلو، يتفقد مواقع عسكرية على امتداد الحدود مع سوريا ولبنان، للاطلاع على تدريبات القوات وإجراء تقييمات ميدانية للجهوزية.
كتاب النهار 12/1/2025 9:21:00 AM
زيارة البابا يفترض أن تكون مناسبة للمصالحة، وكان ممكناً تخطي البروتوكول فيها، إذ يحق لصاحب الدعوة، كما للشاعر، ما لا يحقّ لغيره.