مُبالغات تحرج بابا السلام
زيارة البابا لاوون الرابع عشر إلى لبنان في هذا التوقيت مُهمة بكل المقاييس، وهي إشارة حبرية واضحة إلى أهمية بلاد الأرز وخصائصها الموروثة منذ القِدم. وفي الزيارة تأكيد على مساندة مسيرة التعافي، وتؤشِّر إلى رفض الابتزاز الذي تتعرَّض له الحكومة اللبنانية، من خلال الشروط الإسرائيلية العدوانية الفضَّة، والشروط الإيرانية المُضادة التي تحاول الاستمرار بمنهجية استثمار لبنان لصالح مشاريع إنفلاشية متداعية.
لكن المبالغات التي تتعامل بها بعض المرجعيات الرسمية وغير الرسمية مع الزيارة، فيها شيء من الاستفزاز، وهي لا تساعد على استثمار الحدث الكبير لصالح تعزيز الوحدة الوطنية، ولصالح السلام، ومن أجل تدعيم سلطة القانون والانتظام. وهذه المبالغات تُسبِّب إحراجاً للزائر الكبير، وتطرح تساؤلات ذات خلفية فئوية بغنى عنها في هذه اللحظة الحساسة من مصير المنطقة ولبنان.

كان يمكن الاكتفاء بفرض تعطيل البلد ليومٍ واحد، إبان إقامة القداس الإلهي الجامع في الواجهة البحرية ببيروت نهار الثلاثاء، وهو اليوم الذي سيلقي فيه قداسته مع المرجعيات الروحية الإسلامية في وسط بيروت أيضاً – وحسناً فعل أحد رؤساء الطوائف الإسلامية بطلب لقاء خاص لهؤلاء مع صاحب القداسة، ذلك أن البرنامج الأولي أغفل هذا البند واكتفى بإدراجه كمناسبة للسلام عليه في السفارة البابوية – وبرنامج اليومين الآخرين من الزيارة المُباركة، لم تكُن لتحتاج تعطيلاً شاملاً للبلاد، علماً أن هذه المُبالغات لم تكُن محل ترحيب من أوساط الحبر الأعظم، المعروف عنه تواضعه، وبعده عن مظاهر التبجيل.
التدابير الأمنية لحفظ سلامة الزائر الاستثنائي ضرورية، كذلك العمليات الوقائية التي تُتخذ بالعادة في مثل هذه المناسبة، لكن هناك شيء مُهم يساعد هذه التدابير، لأن منسوب الترحيب بالزيارة كان كبيراً جداً، وهي إشارة إيجابية، ولا يوجد في لبنان أي مؤشرات على الامتعاض من الحدث، وكل القوى السياسية والمرجعيات الدينية رحبت بها، وهناك إجماع على أهميتها، وعلى كونها فرصة للطلب من قداسته الضغط على إسرائيل لتوقيف عدوانها المتمادي ضد اللبنانيين، كما في تأكيد استقلالية لبنان وسيادته وحصرية امتلاك السلاح بقواه الشرعية، بعيداً عن التدخلات الخارجية غير السويَّة.
ليس في صالح أهداف الزيارة تحويل الحدث كمفصل تاريخي بين وضعيتين؛ أي أن ما قبل الزيارة وخلالها تعيش البلاد هدنة تخفِّف من حدِّة الاعتداءات الإسرائيلية، وما بعد الزيارة ستحصل حرب مُدمِّرة ضروس، ستقوم بها إسرائيل ضد لبنان، علماً أنها لم توقِف اعتداءاتها قط منذ توقيع التفاهُم على وقف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني/نوفبر 2024. وعلى العكس من ذلك، فإن الزيارة فرصة تاريخية للبنان لكشف الادعاءات الإسرائيلية الكاذبة، وللضغط عليها بواسطة أرفع مرجعية دينية مؤثرة في العالم لإيقاف ممارساتها المدمِّرة والتي تقوِّض فرص الحوار والسلام. وقداسة البابا قادرٌ بما يملك من نفوذ – خصوصاً كونه أميركي الأصل – على مساعدة لبنان لتدعيم مسيرة الدولة الواعدة، والطلب من كل القوى القادرة دعم الأجهزة النظامية، وفي طليعتها الجيش اللبناني الذي يقوم بدور مُتميِّز واستثنائي في هذه المرحلة المفصلية بالذات.
أما إيحاءات البعض التي تحاول استثمار الزيارة التاريخية لمصالح فئوية أو حزبية أو طائفية، فليست موفقة على الإطلاق، وهي تُحرِج الحبر الأعظم. فزيارته ليست رعوية فقط، بل إنها سياسية بامتياز، وموقفه ثابت إلى جانب لبنان ووحدته التي تُعبِّر عنها المؤسسات الدستورية على اختلافها، ومن المؤكد أنه يرغب في تحصين مسيرة الدولة بعد ما أصابها من إنهاك خلال السنوات الماضية، وهو ما أكده لرئيس الحكومة نواف سلام الذي زاره بروما في 25 تشرين الأول/أكتوبر الماضي.
لبنان كان على الدوام يرحب بزيارات رؤساء الكنيسة الأكثر انتشاراً في العالم، وهو "وطن الرسالة" وفق ما أطلق عليه البابا يوحنا بولس الثاني إبان وجودهِ ببيروت في العام 1997. وجميع اللبنانيين يحفظون صورة ناصعة للفاتيكان الذي لم يدخُل في أي انحيازات داخلية على الإطلاق، وحافظ على الصلات الموروثة مع كل ممثلي المكونات المجتمعية اللبنانية. ومن المؤكد أن الابتعاد عن اعتبار الزيارة كأنها تخصّ فئة من اللبنانيين سيكون محلّ ارتياح لدى دوائر الفاتيكان، وجزء من التوصيفات، أو التعيير الذي أطلقها بعضهم بمناسبة الزيارة، في محاولة لاستثمارها من قبل فئة واحدة، خطأٌ كبير.
-المقاربة الواردة لا تعكس بالضرورة رأي مجموعة "النهار" الإعلامية.
نبض