أوروبا على مفترق طرق جيوسياسي: التحدي الأكبر وكيفية التعامل مع الأزمة الأوروبية
د. خالد العزي*
تعيش أوروبا اليوم في حالة من التحول الجيوسياسي الحاسم، بحيث تتعرض لمجموعة من التحديات التي تهدد بتقليص دورها كلاعب مؤثر في الساحة الدولية.
في ظل الأزمة الأوكرانية، والنزاعات التجارية والاقتصادية مع القوى الكبرى، بالإضافة إلى التوترات الداخلية المتعلقة بالهويات الوطنية والسياسات الداخلية، أصبحت القارة العجوز أمام مفترق طرق حاسم. إذا استمرت أوروبا في موقفها المتذبذب، فقد تُخاطر بفقدان هيبتها العالمية إلى الأبد.
التعامل مع الأزمات الداخلية والخارجية
التحدي الأكبر الذي يواجه أوروبا اليوم يكمن في قدرتها على إعادة بناء هويتها الجيوسياسية، في وقت يتزايد فيه تأثير القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين. الأزمة الأوكرانية على وجه الخصوص كشفت عن حجم هذا التحدي، بحيث أصبح الاتحاد الأوروبي عاجزاً عن التأثير بشكل ملموس في سير الأحداث. فمواقف الولايات المتحدة، بقيادة الرئيس ترامب، تؤثر بشكل كبير على القرارات الأوروبية، بما في ذلك في القضايا الحيوية مثل الحرب في أوكرانيا من جهة. من جهة أخرى، تزداد المخاوف من أن استمرار التبعية الأوروبية للأجندة الأميركية سيؤدي إلى تقليص النفوذ الأوروبي بشكل دائم.

أظهر تقرير نشرته صحيفة "إل باييس" الإسبانية في 30 تشرين الثاني/ نوفمبر 2025، أن أوروبا تواجه خطر فقدان دورها كلاعب جيوسياسي عالمي بسبب عجزها عن معارضة الرئيس الأميركي دونالد ترامب خوفاً من رد فعله. وفقاً للصحيفة، "الاتحاد الأوروبي مشغولٌ جداً بأمنه واستقراره، بينما لا يزال عاجزاً عن مواجهة ترامب". يعتقد المحللون في الصحيفة أن "الخوف من رد فعله كبيرٌ جداً" وأن أوروبا "لا تزال عاجزة عن التخلص من تبعيتها للولايات المتحدة".
إذا استمر هذا الوضع، يُحذر التقرير من أن الاتحاد الأوروبي يُخاطر بفقدان موقعه كلاعب رئيسي في الشؤون الجيوسياسية العالمية. ويُظهر الموقف الأوروبي المتذبذب، بخاصة في القضايا الكبرى مثل الحرب الأوكرانية، ضعفاً متزايداً في التأثير على السياسات الدولية، مما يعرض أوروبا لمخاطر جيوسياسية طويلة الأمد.
إعادة بناء الثقة بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي
من أجل استعادة مكانتها في النظام الدولي، على أوروبا أن تبدأ أولاً بمعالجة التحديات الداخلية التي تواجهها، بخاصةً في ما يتعلق بالعلاقات بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. فوجود حالة من الشكوك والانقسامات بين الدول الأعضاء قد يضعف الموقف الأوروبي ككتلة واحدة. هناك حاجة ماسة إلى تعزيز الوحدة الداخلية بين الدول الأوروبية من خلال آليات حوار مستمرة وتعاون ملموس في القضايا الاقتصادية والدفاعية والسياسية. إعادة بناء الثقة بين هذه الدول، بخاصة في ظل التحديات الحالية التي تواجهها المنطقة، هو الخطوة الأولى نحو استعادة الهيبة الأوروبية.
التوجه نحو سياسة مستقلة تواكب التغيرات الجيوسياسية العالمية
من الضروري أن يبدأ الاتحاد الأوروبي بتطوير سياسة خارجية مستقلة يمكنها منافسة تأثير القوى الكبرى. هذا يعني ضرورة تعزيز العلاقات الاقتصادية والديبلوماسية مع دول أخرى، مثل الصين والهند واليابان، التي أصبحت قوى صاعدة على الساحة الدولية. كما يجب أن يُعيد الاتحاد الأوروبي بناء تحالفاته مع القوى الإقليمية في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، مع التأكيد على احترام سيادتها وعدم الخضوع لضغوط القوى العظمى.
التركيز على بناء قوة دفاعية أوروبية مستقلة
في ظل الضغط المتزايد من الولايات المتحدة لرفع أكلاف الدفاع في حلف الناتو، وأزمة الثقة بالقدرة الأميركية على حماية المصالح الأوروبية، يتعين على الاتحاد الأوروبي اتخاذ خطوة جادة نحو بناء قوة دفاعية أوروبية مستقلة. هذا لا يعني الانفصال عن الحلف الأطلسي، بل تعزيز قدرات الدفاع الأوروبية بشكل متكامل ومستقل، ما يعزز من قدرة القارة على مواجهة التحديات الأمنية بفعالية أكبر. يشمل هذا الاستثمار في التكنولوجيا العسكرية، الاستخبارات المشتركة، والتعاون الدفاعي بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.
إيجاد حلول ديبلوماسية للأزمات الدولية
أمام أوروبا فرصة لإعادة تحديد دورها في العالم من خلال تقديم حلول ديبلوماسية مبتكرة للصراعات الدولية الكبرى، مثل الأزمة الأوكرانية. يمكن للقوى الأوروبية، بقيادة المفوضية الأوروبية، أن تلعب دور الوسيط الفعّال بين القوى المتنازعة. كما يمكن للاتحاد الأوروبي أن يُعزز من دوره كقوة للتفاوض على طاولة الحوار، بما يتماشى مع مصالحه الاستراتيجية وليس تحت ضغط القوى الخارجية.
إذا كانت أوروبا ترغب في استعادة مكانتها كقوة جيوسياسية مؤثرة، فعليها أن تواجه التحديات الكبرى التي تمر بها بواقعية واستراتيجية مدروسة. التغيير ليس سهلًا، ولكنه ضروري. على الاتحاد الأوروبي أن يتعامل مع الأزمة الحالية فرصة لإعادة بناء ذاته وتحديد سياساته بشكل أكثر استقلالية، مع الحفاظ على تماسكه الداخلي وقوته الخارجية. من خلال التحرك بسرعة وبحزم، يمكن لأوروبا أن تجد لها مكاناً جديداً في النظام الجيوسياسي العالمي، يُعيدها إلى خريطة القوى الكبرى في العالم.
*المقاربة الواردة لا تعكس بالضرورة رأي مجموعة "النهار" الإعلامية
نبض