الذّكاء الاصطناعي في ألمانيا… وسباقٌ مواجهة التّهديدات الهجينة
تتعامل ألمانيا اليوم مع واقع أمني غير مسبوق، واقع يتجاوز الخطابات السياسية نحو اختبار حقيقي لقدرة الدولة على حماية نفسها في عصر يتداخل فيه الرقمي بالسياسي والعسكري.
يبدو تصريح وزير الداخلية الألماني دوبريندت يوم 16 تشرين الثاني/نوفمبر 2025 الداعي إلى استخدام أكبر للذكاء الاصطناعي داخل أجهزة الاستخبارات لمواجهة التهديدات الهجينة، في ظاهره خطوة متقدمة، لكنه في جوهره اعتراف بأن ألمانيا تقف على حافة فجوة أمنية تتسع عاماً بعد آخر.
فالتهديدات الهجينة لم تعد مفهوماً نظرياً، بل صارت واقعاً يومياً يخترق البنية التحتية الحيوية: من شبكات الطاقة والسكك الحديدية إلى المؤسسات الحكومية والجامعات. الهجمات السيبرانية، التخريب، التجسس، وحملات التضليل باتت أدوات رئيسية في "حرب الظل" التي تتعرض لها أوروبا.

تواصل روسيا استهداف الكابلات البحرية ومرافق الاتصالات، بينما تشهد ألمانيا عمليات تجسس مباشر تشمل تحليق طائرات بدون طيار فوق مواقع عسكرية وانتهاكات متعمدة لمجالها الجوي.
وبرغم أن الوزير يتحدث عن تعزيز القدرات، فإن الصورة الأوسع تشير إلى دولة تسابق الزمن بأدوات ناقصة. الشركات الألمانية، التي تُعد العمود الفقري للاقتصاد، تبدو مكشوفة أمام الهجمات الرقمية.
إنها حرب تتقدم فيها الهجمات بوتيرة أسرع بكثير من إجراءات الدفاع. ومع ذلك، لا تزال المؤسسات، خاصة العامة منها، تواجه صعوبات في توظيف مختصين، نصف الوظائف لا تتلقى أكثر من عشرة طلبات والرواتب غير قادرة على منافسة عروض شركات التكنولوجيا.
المفارقة أن الدولة التي تريد تعزيز أمنها السيبراني تفقد كوادرها لمصلحة القطاع الخاص، بينما تستنزف هجماتها الاقتصاد الوطني.
أما دعوة الوزير لاستخدام الذكاء الاصطناعي، فهي وإن كانت ضرورية، إلا أنها تأتي في بيئة لا تكاد تستوعب التكنولوجيا الحالية. فهناك 20% فقط من المؤسسات تستخدم الذكاء الاصطناعي استراتيجياً. وفي ظل نقص الكفاءات وصعوبة استقطاب المواهب من السوق المحلي، تبقى خيارات مثل الاستقدام الدولي.
الأخطر من ذلك أن فجوات الكفاءات لا تهدد فقط القطاع الخاص، بل تطال قدرة الدولة نفسها على الاستجابة. يحذر الخبراء من أن ضعف المنظومة السيبرانية قد يؤدي إلى تعطيل مؤسسات كاملة، في وقت تتزايد فيه الهجمات على مرافق الدولة الحساسة مثل الملاحة الجوية والمكاتب الإحصائية والهيئات البحثية.
ألمانيا اليوم أمام اختبار مصيري، إما أن تتعامل مع الأمن السيبراني باعتباره أولوية وطنية كبرى، أو أن تواصل رد الفعل بدلاً من الاستباق. المطلوب ليس فقط تمويلاً أكبر، بل إعادة هيكلة شاملة منها: تحديث القوانين، رفع الرواتب، تحسين التدريب، وتوسيع شراكات الدولة مع الشركات والجامعات وتطوير موارد بشرية قادرة على المنافسة.
فالتهديدات الهجينة لا تنتظر، أما الدولة، فإما أن تلحق بالسباق، أو أن تبقى مكشوفة في ساحة حرب جديدة لا تُطلق فيها رصاصة، لكن الخسائر فيها قد تكون قاتلة.
*باحث في الأمن الدولي والإرهاب ـ بون
-المقاربة الواردة لا تعكس بالضرورة رأي مجموعة "النهار" الإعلامية.
نبض