في ظل الانهيارات الاقتصادية والإدارية التي يعانيها لبنان، يبرز ملف الجامعة اللبنانية كأحد أكثر الملفات إلحاحاً وحراجة و الذي هو المرآة الحقيقية لحالة الوطن ، خصوصاً بعد فضائح الرشى الأخيرة التي طالت مديرين، وأساتذة، وطلاباً، وموظفين وخريجين ، وأثرت بشكل مباشر على الدور الأكاديمي للمؤسسة وعلى مبرر وجودها في هيكليتها المركزية الحالية.

فالمؤسسة الوطنية الأكبر، التي شكّلت لعقود مساحة جامعة لأبناء كل المناطق والطوائف، تواجه اليوم أزمة بنيوية غير مسبوقة تهدد مكانتها التاريخية.

وفي هذا السياق، وبعد أن سبق لكاتب المقال من موقعه الأكاديمي والنقابي والسياسي السابق، أن تقدم باقتراح لتقسيم الجامعة إلى خمس جامعات في المحافظات بإطارها العام ، فإن رؤيته لجامعة وطنية عصرية تحاكي التحولات التكنولوجية والاجتماعية والاجتماعية الكبرى المتسارعة، تقارب عبر  اقتراح مشروع إصلاحي جذري يهدف إلى إعادة تأسيس الجامعة على قواعد عمل حديثة. يقوم المشروع على إعادة الاعتبار للفكر النقدي الحر، ويحرر  الأساتذة من التبعية الزعاماتية العمياء ومن  التقوقع الطائفي والمذهبي والمناطقي وتحويل الجامعة إلى محرك للتنمية الوطنية، مع الحفاظ على دورها المحوري في تعزيز الهوية الوطنية وتعميق مفهوم العيش المشترك بين جميع أبناء الوطن.



- الخطة: خمس جامعات مستقلة إقليمياً… ومرجعية وطنية موحّدة من فوق

يقترح المشروع تقسيم الجامعة اللبنانية إلى خمس جامعات إقليمية مستقلة إدارياً و مالياً وأكاديمياً، تعمل كل منها وفق هويتها الخاصة المستندة إلى حاجات المنطقة، ولكن ضمن مجلس وطني أعلى للجامعة اللبنانية يضمن وحدة السياسات العامة وجودة التعليم والبحث العلمي.

الجامعات الخمس المقترحة هي:
1. جامعة بيروت الكبرى.
2. جامعة جبل لبنان – الساحل.
3. جامعة الشمال – عكار.
4. جامعة البقاع – بعلبك.
5. جامعة الجنوب – النبطية.

هذا النموذج لا يهدف إلى تفتيت الجامعة، بل إلى تنشيط الأقاليم، توزيع تكافؤ الفرص، تحسين جودة التعليم  وتقريب الجامعة من بيئتها الاجتماعية المتعددة، مع الحفاظ على هوية وطنية جامعة لا تمسّها الانقسامات الغرائزية البغيضة.



- الزبائنية السياسية… العلّة التي لا يُمكن تجاهلها

لا يمكن الحديث عن إصلاح حقيقي من دون مواجهة المشكلة الأكثر عمقاً: الزبائنية السياسية والفساد اللذان تسرّبا إلى جسم الجامعة خلال السنوات الماضية. فقد أصبحت الجامعة ساحة للمحاصصات الصفقاتية العابرة للطوائف والتعيينات الاستزلامية غير الأكاديمية في المواقع الأكاديمية والتدخلات الحزبية في كل الشؤون و المستويات داخلها والتي عطّلت المسار الطبيعي لنموها، لا بل في انحدارها بسرعة غير مسبوقة 

هذا الواقع أدى إلى:
• إضعاف القرار الأكاديمي لمصلحة اعتبارات سياسية مباشرة.
• تراجع معايير الكفاءة في التوظيف والترقية.
• هجرة الأساتذة المتميّزين نحو جامعات في الخارج.
• تصدّع سمعة الجامعة اللبنانية في التصنيفات الدولية وفي بيئة الأعمال.
• انخفاض غير مسبوق في تنافسية خريجيها داخل لبنان وخارجه.



- الإصلاح الحقيقي يبدأ من التحرير المؤسساتي

يشدد المشروع على أن تقسيم الجامعة إلى خمس جامعات لن ينجح ما لم يُقترن بتحريرها من النفوذ السياسي عبر خطوات عملية تشمل:
• مجالس إدارة مستقلة لكل جامعة إقليمية تُنتخب أكاديمياً.
• نظام توظيف وترقية شفاف يعتمد على مرجعيات خارجية مستقلة من أصحاب الاختصاصات المطلوبة .
• رقابة مالية محصّنة ومعلنة عبر تقارير سنوية.
• فصل تام بين القرار الأكاديمي والتدخل السياسي.
• وقف التوظيفات الاستثنائية واعتماد مباريات وطنية شفافة وفق الآليات المعتمدة في الجامعات المشهود لها دولياً .

بهذه المعايير، يصبح الإصلاح الهيكلي متكاملًا: هو إصلاح أكاديمي وتحرير مؤسساتي في آن واحد.



- تعزيز العيش المشترك عبر نموذج بنيوي لا مركزي

يؤكد المشروع أن الهدف هو تعزيز العيش المشترك عبر أدوات عملية مدروسة:
• مناهج وطنية موحّدة حول المواطنة والتاريخ المشترك.
• برنامج تبادل إلزامي للطلاب والأساتذة بين الجامعات الخمس.
• سكن طلابي مختلط المناطق والطوائف في مختلف الأقاليم.
• مشاريع خدمة مجتمعية مشتركة تجمع طلاباً من مختلف المناطق.
• مراكز بحث وطنية موحّدة تربط الجامعات ببعضها بعضاً أكاديمياً.

بهذه المقاربة، لا تصبح الجامعات الإقليمية مساحات انعزالية، بل مكوّنات شبكة أكاديمية متفاعلة تعزّز التنوّع والتواصل.



- ربط الجامعات الخمس بالتنمية الاقتصادية لكل منطقة

ينتقل المشروع من منطق “جامعة للتعليم فقط” إلى منطق “جامعة محرّك للاقتصاد”، عبر تطوير برامج متخصصة مرتبطة مباشرة بهوية كل منطقة:
• الهندسة الزراعية والتكنولوجيا الزراعية في البقاع.
• الطاقة والصناعات الخفيفة في الشمال.
• الطب والإدارة والسياحة في بيروت.
• الصناعات البحرية والطاقات المتجددة في الجنوب.
• الهندسات التطبيقية والتقنيات الرقمية في جبل لبنان.

وبذلك تصبح كل جامعة جزءاً من دورة الإنتاج والبحث في محيطها، ما يعزز التنمية المحلية ويحدّ من النزوح الداخلي.



- مرحلة انتقالية على خمس سنوات

يقترح المشروع تنفيذ الإصلاح على مراحل واضحة:
• تشكيل لجنة وطنية مستقلة لتنفيذ التحويل.
• إطلاق نماذج أولية في كل جامعة قبل التعميم الكامل.
• تطوير نظام اعتماد أكاديمي موحد يربط الجامعات الخمس.
• تحسين بيئة عمل الأساتذة ومنع الهجرة الأكاديمية.
• استقطاب تمويل مرحلي من الاغتراب والجهات المانحة.



- استعادة ميزة الجامعة اللبنانية وسمعتها … هدف ممكن خلال 7 سنوات

إذا طُبّق الإصلاح وفقاً لمعاييره، يمكن خلال سبع سنوات تحقيق:
• تحسين تصنيف الجامعات اللبنانية الجديدة عالمياً.
• رفع إنتاجية البحث العلمي.
• تحسين فرص خريجي الجامعة في الأسواق العربية والدولية.
• استعادة ثقة القطاع الخاص ونقابات المهن.
• عودة الأساتذة المهاجرين عبر عقود مرنة وجاذبة.



أخيراً لحظة الحقيقة

يقف لبنان اليوم أمام خيارين:
إما أن يبقى أسير نموذج جامعي مترهّل فقد دوره وسمعته وتنافسيته،
وإما أن يتجه إلى إصلاح جذري شجاع يعيد للجامعة اللبنانية مكانتها كعمود استقرار اجتماعي وكمنارة علمية وطنية.

هذا المشروع ليس دعوة إلى التقسيم، بل دعوة إلى إعادة التأسيس على أسس حديثة، عادلة، شفافة، وتتناسب مع طموحات اللبنانيين الذين ما زالوا يرون في جامعتهم الوطنية أملًا ورافعة أساسية للنهوض.

*د.نزيه الخياط، رئيس مجلس إدارة صندوق تعاضد أساتذة الجامعة اللبنانية الأسبق