سياسة الكتف الثالثة
جورج كلّاس*
سرعة تبديل المواقف وتقنية استخدام الكتف الثالثة، هي السمة الشائعة في سلوكات بعض متسلقي السياسة بمعناها اللبناني، والمتطفلين على الشأن العام ومنتحلي لقب خدمة الشعب، الذين يعتمدون جهوزية دائمة في الاستدارة والانتقال وصناعة مبادئ غبّ الطلب، بما يوفر النفع الذي ينتهزه كل متسرِّعٍ طامع، ومستعجلٍ طامح .
إن ظاهرةُ استخدام الكتف الثالثة، كإستراتيجية انتفاع وحماية رأس، تُظهِرُ احترافيّة انتهازية في سرعة تبديل الولاءات وفنية النقل الدائم للبارودة من كتفٍ أولى إلى كتف ثانٍية فكتفٍ ثالثة حتى وَلَوْ كانت الكتف طرفاً اصطناعياً، إضافة إلى فَنيَّة الاسترزاق والخنوعية والتعوُّد على الخضوعيّة والتماس الولاءات الجديدة، وتلك التي قد تكون غبَّ الطلب!

هذا نصٌ في فنِّ الكاريكاتور السياسي، موحى به من التقلبات وليس مستوحىً من البهلوانيات السياسية النفعية، وهو نمطّ أدبي هازئ ساخر لاذع، دلالاته إنتقادية نكَّازَةٌ، وصوره تعبيرية وخَّاذة!
مشهديات استخدام تقنيةِ نقل البندقية من كتفٍ أولى يُستفادُ منها، إلى كتفٍ ثانٍية يُرادُ الاستثمار فيها طمعاً، فإلى كتفٍ ثالثٍة تكون أشبه بظهير احتياط للتوكؤ عليها كلما دعت الحاجة، تشكل ظاهرةٌ احترافية توسُّليةٍ استثمارية واستغلالية متقنة التفنن بصياغتها كعملية انتهازيَّةٍ، فيها تنكُّر دائم للقيم، وتبديل لحظيٍّ لأهداف، وتسليع فوري لولاءات جاهزة للتبديل وتقديم أوراق الاعتماد، إضافة إلى كونها فنيَّةُ احترافٍ مُسبَقَةِ التخطيط للالتحاق بالتَبعية المتحركة، والرغبة بنزع الثوب القديم وإبداله بثوب آخر يستجلب النفع الحماية، رغم خطر الانغماس الأعمى في مجهولات الانتظار المليء بالخيبات والنكسات والإنكسارات ، التي تدوَّن في محفوظات الذاكرة التسليعية والمواقف القلاَّبة في الظروف الغلّابة.
إنها فنيَّةُ البحث الدائم عن كتفٍ ثالثة للإسترزاق منها والإستناد عليها والاحتماء بها، ظنّاً أن في دوّامة التحرُّك كثرةُ تبرُّكٍ!
إن وضعية تركيب كتف ثالثة لاستخدامها في لحظات التحوّل، تعني في مصطلح الأدبيات المجتمعية السلبية، ضرباً من ضروب الدناءةِ والتفنن بالتنكر لفضل الكتف الأولى وما تختزنه من ذكريات وتوثقه من أخبارٍ، وتخبئه من مشهدياتٍ بالأبيض والأسود، وما تنام عليه من أسرار بيض وكذباتٍ سود مسكوتٍ عنها، لا تُقرأ إلّا من خلال تقنيات الرصد والتفكيك نبش الغيب ومحاولة إعادة التركيب وِفقَ رأي زبائن ورواد الكتف الثالث ومردوداته المأمولة.
إن التنقلُ من كتف إلى كتفٍ، مع البارودة أو من دونها، هي بلغة الساسية النفعية من خصال التفنّن الخفيضة ورغبتها بتوظيف البارودة للارتزاق المادي والتسخير السياسي والتماهي التحوُّلي مع الظروف تبعاً لتبدل الأحوال، ووفق استراتيجية حماية المصالح الآنية وتغليبها على المبادئ الإنسانية والخروج عن نظام الأخلاق والقيم.
وغالباً ما تشيع هذه الظاهرة الانتهازية في زمن قرب أفول نجمٍ وبزوغِ نجم آخر مكانه، فتخلو الساح ليتنافق المنافقون، ويتكاذب الكاذبون، ويتغادر الغدار بغدرهم، ويتفاجر الفجَّار بفجورهم، ويزحف الزاحفون على بطونهم، لتقديم أوراق استخدامهم واسترقاقهم في حاشية مليك مملوكٍ جديد يكونون له عبيداً خانعين، ساكتين عن أي هفوة، صامتين عن كل كلام، سعياً للالتحاق بركب أسياد اللحظة والاستقواء بخاصية التقلُّب والسير خلف ذنب القافلة بأمتار، إلى أن يلوح طيف قافلة أخرى من بين السراب.
إنها سلوكات التهيّؤء الدائم للالتحاق بجماعة الأقوياء، ومحاولة اغتيال الزمن الماضي والتبجُّحِ بالتنكر للوفاء والإمعان بالاغتسال من بريق الماضي والالتحاف بمنديل جديد، من خلال الاعتماد على تبريراتٍ تعبيرية يعوزها الإقناع، والتسلّح ببهلوانيّات لغوية غايتها الإستبضاع والإمتاع، باتباع فنِّ الارتزاق وإتقان إقتناص اللحظة قبل أن تغيب فرصة الانتهاز وتضيع فترة الإبتزاز، وتنكشف الأمور وينفضح المستور ويعود القديم إلى قدمه وتستحيل عقارب الساعة لسَّانةً عقاصة ولهّابةً سمّامةً .
نقلية الكتف الثالثة ووضعيتها المتحركة، هي القدرةُ العجيبة والأفكار الغريبة على التحوُّل من حالة الولاء المستقطع إلى وضعية العداء، بانتظار تبدّل الأحوال وانتهاز الفرص والقبض على مردود اللحظة، قبل أن تتغير الأفعال وتنقضي الآجال، وتنتهي النشوة وتبدأ الغشوة، بانتظار إعادة التوكؤ على كتفٍ أخرى من جديد، مجاراةً لتبدّل الأحوال وتغيير مسار الآجال، وتخبئة الرأس عند تبدّل الدول وتغيُّر الأحوال!
*وزير سابق
-المقاربة الواردة لا تعكس بالضرورة رأي مجموعة "النهار" الإعلامية.
نبض