الدكتور كمال ديب كندا
ما إن ذكرتُ أنّ سبب الحروب في العالم، وخاصة حرب الإبادة على غزّة، هو ارتفاع أجور العمال في أميركا مقارنة بأجور عمّال العالم، وخاصة عمّال الصين، وأنّ التنافس في هذه الأجور سيتستمرّ وتستمرّ معه الحروب إلى أن تتعادل الأجور، حتى أتاني أحدهم وقال إنّ عبارة "عمال العالم" التي أذكرها قد مضى عليها الزمن.
ولعّل في مخيّلة محدّثي أنّ عبارة كارل ماركس وغيورغ إنجلز في نهاية كتيّبهما المانيفستو الشيوعي "يا عمّال العالم اتّحدوا"، قد وصلت إلى طريق مسدود (بنظره المتأثر بالدعاوى الشعبية)، وأنّ هذه العبارة قد انتهت عام 1991 بانهيار الاتحاد السوفياتي والكتلة الاشتراكية.
ولكن فات محدّثي ثلاثة شؤون:
الأول، أنّ مسألة العمّال لطالما طرحتها الكنيسة الكاثوليكية وخاصة في كتيّبات قدّمها البابا وفيها أنّ الصراع بين العمال والرأسماليين أبديّ، وأنّ العمال هم أساس الإنتاج وأنّ رأس المال هو أداة خلقوها هم وسخرّوها لهم في عملية الإنتاج. ولذلك يجب تقديس العمل والاعتراف بحقوق العمال في أجور عادلة وفي إنشاء النقابات، وأنّ على الحكومات جعل حقوق البشر فوق اعتبارات الربحية. Rerum Novarum (Pope Leo XIII) and Laborem Exercens (Pope John Paul II),
والثاني، أنّ علماء الاقتصاد وخاصة في إنكلترا وفرنسا وهولندا، وخاصة أنبياء الليبرالية منهم، قد حذّروا أصحاب المصانع والشركات من الجشع وأنّ عليهم ممارسة عدالة أجور العمال، وأنّ على الحكومات فرض الضرائب وخلق برامج اجتماعية لمساعدة العمّال وعائلاتهم. وما على المرء إلا مطالعة ثروة الأمم Wealth of Nations لآدم سميث حتى يدرك أهمية إنصاف النظام الرأسمالي للعمال الذي أهملته الشركات العالمية اليوم.
والثالث، أنّ كبريات الشركات الأميركية ووراءها مجلات إدارة الأعمال المتخصصة، أخذت تطرح بعد الأزمة العالمية عام 2008 مسألة فوارق الأجور بين الصين وأميركا على أنّها الخطر الأول الذي يواجه الريادة الأميركية الاقتصادية في العالم. ولكن الحكومات الأميركية – الإدارات المتعاقبة في البيت الأبيض – فشلت مراراً في تنمية اقتصاد أميركا حتى يتفوّق على صعود الصين، ولجأت إلى حلول عسكرية.
وبيت القصيد هنا أنّ الصين تصنع وتبيع منذ 1990 وتكاد تسيطر على التجارة العالمية قريباً، فيما أميركا تخاف وتتراجع، وبضاعتها مرتفعة الثمن ويصيبها الكساد. والسبب هو أن العامل الصيني أرخص من العامل الأميركي وبضاعة الصين أرخص.
وأمام هذا الواقع، تُغرقُ أميركا وتقتل من في طريقها فتزداد الحروب والمجازر في العالم، من أوكرانيا إلى غزة. فأميركا في طريقها لمنع الصين من الصعود تقول لحلفائها في أوروبا الغربية وفي المنطقة العربية إنّها ساعدتهم في الرفاهية والازدهار وجاء الوقت ليساعدوها هم ضد الصين. فأميركا تشعرُ بأنها ستفقدُ المكانة الأولى في العالم. وعمّال العالم لن يقفوا مكتوفي الأيدي فيما العامل الأميركي يتمتع بأجور عالية، بل يريدون أن يصبحوا على نفس المستوى. وعندما تصبح الرواتب متساوية بين العامل الأميركي والعامل الصيني سترتاح أميركا ولكن حينها ستفقد مستوى معيشتها ويخسر عمّالها الرفاهية التي عرفوها منذ 1945 إلى اليوم، ويتراجع اقتصادها لصالح الصين.
فهل يمكن تحديد متى سيحصل هذا التعادل؟ هل هو خلال عشر سنوات أم خلال عشرين سنة؟ لقد حدّد البعض أنّ ذلك سيكون 2027، ولكننا نرى أنّ هذا تقدير متفائل وقريب جدّاً، والدليل أنّنا لا نشاهد في الوضع الاقتصادي والعسكري أنّ هذا سيحدث قريباً. بل لعل التعادل سيحصل عام 2035 أو 2050، فمن يدري. ولكن إلى حين حصول هذا التعادل، سيكون الثمن باهظاً على البشرية من حروب وإفقار وويلات.
ملاحظة: عام 1891، أصدر البابا ليو الثامن كتيّب "ريروم نوفاروم"، وفيه يأسف للدرك الذي وصل إليه العمال في فقرهم وتعاستهم بسبب الثورة الصناعية في أوروبا الغربية، وأنّ الروح الكاثوليكية إنّما تريد إنصاف هؤلاء العمال. وفي عام 1981 أصدر البابا يوحنا بولس الثاني كتيّباً بعنوان "لابوريم إكسرسنس"، فتوسّع في مبدأ إنصاف العمال وأكّد أنّ رأس المال ما هو إلا خليقة العمال وليس العكس ويجب على أصحاب الشركات جعل الكرامة الإنسانية فوق كل اعتبار. وما زال الفاتيكان يرفع شعر العدالة العمالية إلى اليوم.
ملاحظة ثانية: أنّ ماركس وافق على الطرح الكنسي ولكنه أضاف أنّ العامل خلق رأس المال وهو عبارة عن وسيلة الإنتاج ولكن هذه الوسيلة هي لصاحب المصنع ولا يمكن العامل أخذها معه إلى مكان عمل آخر، فيشعر العامل بغربة عن إنتاجه alienation. ولذلك كان نقد ماركس أنّ المفكرين من قبله اكتفوا بوصف هذا العالم، ولكن فكرته هي تفوّق الوصف نحو تغيير هذا العالم وإعادة ملكية العامل لوسائل الإنتاج.
نبض