توازن دمشق الصعب
في لحظة إقليمية دقيقة، تتقاطع فيها مصالح القوى الكبرى فوق جغرافيا الشرق الأوسط، تبدو دمشق وكأنها تعود تدريجياً إلى قلب المشهد الدولي. فزيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى موسكو لم تكن مجرّد محطة بروتوكولية في روزنامة العلاقات الخارجية، بل خطوة تحمل في طياتها إشارات إلى مرحلة جديدة من السياسة السورية، عنوانها: البحث عن توازنٍ صعب بين الشرق والغرب.
اللقاء الذي جمع الشرع بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين جاء بعد أشهر من الغموض الذي رافق سقوط النظام السابق، ليشكّل أول اختبار علني لخيارات القيادة الجديدة. غير أن المشهد هذه المرة لم يكن نسخة مكرّرة من العلاقات التقليدية التي جمعت موسكو بدمشق في عهد الأسد، بل بدا أقرب إلى شراكة واقعية تسعى فيها روسيا للحفاظ على نفوذها في الشرق الأوسط دون أن تتحمّل أعباء سياسية أو اقتصادية إضافية.

سوريا الجديدة تدرك أن زمن التحالفات المطلقة قد انتهى، وأن إدارة ما بعد الحرب لا يمكن أن تُبنى بعقلية الاصطفاف القديم. لذلك، تحاول أن توازن بين مصالح موسكو ومطالب الغرب، وبين ضغوط الإقليم واستحقاقات الداخل، ضمن مقاربة تقوم على البراغماتية الحذرة أكثر من الأيديولوجيا أو الولاء السياسي.
لكن هذه الموازنة ليست مهمة سهلة. فكل خطوة سورية نحو روسيا تُفسّر في بروكسل وواشنطن كعودة إلى المدار الروسي القديم، وكل محاولة انفتاح على الغرب تُثير في الكرملين مخاوف خسارة الحليف الأهم على ضفة المتوسط. وبين الطرفين، تحاول دمشق أن تُعيد صياغة علاقاتها الخارجية بلغة المصالح لا التبعية، وهو مسار محفوف بالمخاطر في منطقة لا تحتمل الفراغ ولا الحياد الطويل.
إسرائيل بدورها تتابع هذا الحراك عن كثب، فكل تقارب سوري–روسي يُنظر إليه في تل أبيب باعتباره تهديداً محتملاً لتفاهمات أمنية جرى تثبيتها خلال السنوات الماضية، بينما تخشى من أن يؤدي انفتاح سوري–غربي إلى عودة دمشق كلاعبٍ مستقل في معادلات الإقليم. أما تركيا وإيران، فلكلٍ منهما حساباته وحدوده، ما يجعل التوازن الإقليمي أكثر هشاشة وتعقيداً.
في الوقت ذاته، تبدو روسيا حريصة على تثبيت أقدامها في سورية الجديدة، ولكن من موقع الشريك لا الوصي. فهي تدرك أن دمشق بعد الحرب لن تقبل بدور التابع، وأن الانفتاح السوري على الغرب لا يعني بالضرورة القطيعة مع موسكو. ولذلك، تحاول القيادة الروسية إعادة تعريف حضورها في سوريا بما يضمن مصالحها في المتوسط ويُبقي لها موطئ قدم في الملفات الإقليمية الحساسة.
من جهة أخرى، تراهن القيادة السورية على أن استعادة العلاقات مع الغرب، ولو تدريجياً، هي المفتاح الحقيقي لمرحلة إعادة الإعمار وعودة اللاجئين وتخفيف العقوبات. هذا الانفتاح، إن تمّ بحذر، قد يُعيد سوريا إلى موقعها الطبيعي في النظام العربي والدولي، بشرط أن يُدار ضمن سياسة واضحة لا تضع البلاد مجدداً في فخّ المحاور المتناحرة.
تسعى دمشق اليوم إلى تحويل شبكة علاقاتها إلى مروحة توازن إقليمي تحفظ لها استقلال القرار وتُعيد إليها دورها كجسر بين القوى لا كساحة لصراعاتها. غير أن هذا المسار يتطلب وعياً عميقاً بحقائق القوة والمصالح، لأن الخطأ في الحساب، في لحظة كهذه، قد يعيد البلاد إلى مربع التجاذب الدولي الذي أنهكها لعقدٍ كامل.
في النهاية، ما تعيشه سوريا ليس مجرد إعادة تموضع سياسي، بل محاولة لإعادة تعريف موقعها وهويتها في عالم متغيّر. فبين موسكو وواشنطن، وبين حسابات الإقليم وضغوط الداخل، تمضي دمشق على خيطٍ رفيع من التوازن، تحاول من خلاله أن تستعيد حضورها دون أن تنزلق إلى محورٍ جديد أو مواجهةٍ غير محسوبة.
ويبقى السؤال الأهم، هل تنجح سوريا في تحويل هذا التوازن الدقيق إلى سياسةٍ مستدامة تحفظ استقلالها ومصالحها، أم أن الخيط الذي تمشي عليه سينقطع تحت ثقل تناقضات القوى الكبرى؟
*باحث ومستشار سياسي
-المقاربة الواردة لا تعكس بالضرورة رأي مجموعة "النهار" الإعلامية.
نبض