الآن أو أبداً: كي يتحدث لبنان باسمه... المفاوضات المباشرة ليست ضعفاً بل ضرورة!
رغيد الشمّاع*
يقف لبنان اليوم على مفترقٍ حاسمٍ بين عبء ماضيه وثقل مستقبل يتشكّل في محيطه من دونه. من حولنا تتحرّك المنطقة، تتبدّل موازين القوى، وتُزرع بذور السلام، فيما يبقى لبنان جامداً، أسير تناقضاته، مشلولاً بالخوف، مُنهكاً باليأس. لقد صمد هذا الوطن لعقودٍ أمام الحروب والأزمات والوصايات، لكنه نسيَ كيف يتكلّم بصوتٍ واحد. واليوم، أصبح صمته أخطر ما يهدّده.
تُطلّ على الشرق الأوسط مرحلة جديدة. فالإمارات ومصر والأردن اختارت طريق الحوار والتطبيع. وإسرائيل توسّع انفتاحها الدبلوماسي والاقتصادي. أما الولايات المتحدة والرياض فتسعيان لبناء منظومة جديدة للأمن والسلام في المنطقة. وفي خضمّ هذا التحوّل، تسعى كل دولة إلى ترسيخ مكانتها ودورها وشرعيتها. وحده لبنان، بلد التوازن ورسالة التلاقي، يوشك أن يتلاشى في ظلّ الخرائط الجديدة، متحولاً إلى مجرّد هامشٍ على خريطةٍ تُرسَم من دونه.
إنّ التاريخ لا يرحم: فالشعوب التي لا تتكلّم، يتكلّم الآخرون عنها. وهذه هي المعضلة التي تهدّد سيادتنا اليوم. لطالما أوكلنا مصيرنا إلى الوسطاء، إلى القوى الأجنبية والمفاوضين الذين يزعمون الدفاع عن مصالحنا فيما هم يسعون وراء مصالحهم الخاصة. ما عانى لبنان أكثر إلا حين تخلّى عن صوته. فالدبلوماسية بالوكالة هي استقالة مقنّعة، وهي رفضٌ للكرامة الوطنية، وخوفٌ من امتلاك الموقف.وقد كلّفنا هذا الخوف ثمناً باهظاً. إنّ مفاوضات ترسيم الحدود البحرية عام 2022 تشهد على ذلك. فقد جرت تلك المفاوضات بطريقةٍ غير مباشرة عبر وساطةٍ أميركية، فجنّبت لبنان مواجهةً مفتوحة لكنها انتزعت منه حقاً تاريخياً معترفاً به منذ عام 1949، بموجب اتفاقيات الهدنة. لقد خسرنا ما كان لنا بحكم القانون والعرف، فقط لأننا آثرنا الصمت والحذر. ما سُمّي حينها إنجازاً دبلوماسياً كان في الحقيقة درساً مريراً: فالدولة التي تمتنع عن الكلام باسمها، تُفرّط بحقوقها. وحين نغيب عن طاولة التفاوض، نسمح للآخرين بإعادة رسمها من دوننا.من هنا، يجب أن يستخلص لبنان العبرة: المفاوضات المباشرة ليست ضعفاً، بل ضرورة! فالدولة ذات السيادة لا تخاف الحوار، لأن الحوار هو أسمى أشكال السيادة. لا تُصان الحدود بالصمت، ولا يُبنى المستقبل بالتجنّب. السلام لا يُفرض، بل يُصنع، ومن أراد أن يكون جزءاً منه فعليه أن يحضر.
إنّ هذه اللحظة التاريخية تتطلّب شجاعة، لا شعارات. فالحروب التي لا تنتهي دمّرت الاقتصاد، وأفقرت البلاد، ودفعت بشبابها إلى الهجرة. كل حربٍ مؤجّلة هي جيلٌ ضائع. لا يمكن للبنان أن يعيش إلى الأبد على رماد جراحه. فالتحدث إلى الآخر، حتى إلى العدو السابق، ليس خيانة، بل قمّة الاستقلال الوطني. إنه تأكيد أن لا قوة خارجية تملي علينا شروط أمننا أو حدودنا أو مصيرنا.رفض الحوار المباشر هو خروجٌ طوعي من مسرح السياسة. وعندما تخرج دولة من هذا المسرح، يُخرجها الآخرون من التاريخ. إنّ قطار السلام انطلق، ولن يمرّ مرتين. وإذا بقي لبنان صامتاً، فسيتولّى الآخرون رسم حدوده والتفاوض على موارده وتحديد دوره الإقليمي. وهذه الخسارة لن تكون سياسية فقط، بل وجودية.لقد آن الأوان لاستعادة معنى السلام. فالسلام ليس استسلاماً، بل قمّة القوة الواعية. لا يُلغي الماضي، بل يمنحه معنى. لا *يتخلّى عن القضايا العربية، بل يعيد لها كرامتها عبر الاستقرار والاحترام المتبادل. السلام الحقيقي يُبنى على الوضوح لا على الوهم، على الحكمة لا على الخضوع.من حولنا، يُعيد العالم العربي ترتيب أولوياته: النموّ، التنمية، الاستقرار. الدبلوماسية القديمة القائمة على الشعارات تحلّ محلّها اليوم دبلوماسية المشاريع والإنجازات. ولبنان، بلد الثقافة والذكاء والتوازن، ما زال أسير خطابٍ عتيقٍ يكتفي بالبقاء حيث يمكنه أن يتألّق.لقد حان الوقت لكسر الصمت. آن الأوان أن يتكلّم لبنان — لا لإرضاء طرفٍ أو لمعاداة آخر، بل ليؤكّد وجوده. ليذكّر العالم أن هذا الوطن، منذ نشأته، كان مساحة تلاقٍ وانفتاح وتنوّع. والتخلّي عن هذا الدور يعني التخلّي عن هويته.ما هو على المحك اليوم ليس مجرّد نزاع حدودي أو تموضع سياسي. إنه سؤال السيادة نفسه: هل ما زلنا قادرين على اتخاذ القرار بأنفسنا؟ هل ما زلنا نملك الشجاعة الأخلاقية لنقول ما نريد، مباشرة لمن حولنا؟ أم سنبقى نسمح للآخرين أن يتكلّموا باسمنا؟يجب على لبنان أن يستعيد صوته — بلا خوف، بلا وسطاء، بلا تردّد. عليه أن يجلس إلى الطاولة التي يُرسم عندها مستقبل المنطقة، لا كطالبٍ أو متلقٍ، بل كدولةٍ تعبّر عن إرادتها. فذلك هو معنى الكرامة الوطنية، وذلك هو جوهر النضج السياسي.إن لم نتكلّم الآن، فسيتكلّم الآخرون، ولن يقولوا ما نريد، بل ما يناسبهم هم.الآن أو أبداً — هي اللحظة التي يقرّر فيها وطنٌ أن يكون فاعلاً في تاريخه أو هامشاً في تاريخ الآخرين.فالسلام لن ينتظر. وسيُصنع، بنا أو من دوننا. وما زال الخيار بيد لبنان — إن وجد الشجاعة ليقول أخيراً: سنتكلّم باسمنا، وباسم وطننا!
*سياسي، وسفير لدى الأمم المتحدة في جنيف والمنظمات الدولية الأخرى في سويسرا (2010-2019)
نبض