معايدةٌ مؤّجلة
سارة الدّنف
كيف أمضيتم اليوم العالمي للمرأة؟ ذرفتم الدموع فوق الزهور الذابلة؟ احتفلتم بزميلاتكم وكلّ النساء اللائي يعترضن طريقكم في الحياة؟ لكم، ولمنشوراتكم، وكذبكم وأشعاركم أقول؛ أبغضكم، وكلّ ما يرتبط بكم.
لكم أقول: عندما تقرّرون الاحتفال بنسائكم، أعيدوا النظر إلى المنازل الّتي جئتم منها، تلك الّتي لم تُبنَ سوى على أجساد أمَّهاتكم الفاقدات للحياة، الأمهات اللواتي قُتِلنَ –الله أعلم كم مرّة- كي تجيدوا تمثيل مسرحيّاتكم المتعاطفة، المتعالية، المتحاذقة، والذُّكورية خلف السَّتائر والأقنعة.
لقد أمضيتُ أغربَ يوم عالميّ للمرأة في حياتي. فهذا الثامن من آذار الّذي نسيتم ربّما اليوم رمزيّته، قد زادني، بعد أن مرّت رتابته المزرية بضغوطاتها وأصواتها، تطرّفًا. ودفعني إلى أن أرتمي في هذا المكان الصّاخب، كي يتسنّى لي افراغ كلماتٍ تعذّر اسقاطها دموعًا رغم تلك الّتي ذرفت واحتضنت من لا تستطيع إنقاذها.
فعالمكم المبني كما هو، دون إضافات، قائمٌ بحدّ ذاته على المرأة المُمزَّقة والمكسورة. ليس لأنها ضعيفةٌ، بل لأنّ الحياة متواطئةٌ ضدّها منذ الأزل. فحتّى أدوارها الأكثر نُبلًا ليست سوى فصل آخر من قمع متوارثٍ، مصدره رَحمٌ، لا يَرحَمُها. ولأولئك اللواتي يمتعضن مما قد يبدو لهنّ دور الضّحيّة أقول، أنتنّ، تذكّرنني بالرّأسماليين، والإقطاعيين، وقهقهات السُّلطة اللّعينة، وحديثي الثّراء. تذكّرنني، بأولئك الّذين يمجّدون رأس الهرم متناسين من يقف عليه. أنتنَّ كما هم. نجحتنّ بالوصول فلبستنّ بزّات الرجال وبصقتُنَّ، معهم، بل خلفهم، على بنات جنسكنّ اللَّواتي أَضَلَّهُن طريق الحرية، ومرّ بهنّ مُرًّا، بحياة جهنّميّة لا يحسدن عليها.
لست ساذجة البتّة، ورؤيتي للعالم لم تكن للحظة ورديّة أو مثاليّة، فما احترفت شيئًا في حياتي بقدر التشاؤم والسّوداويّة. إلّا أنني، وبالرّغم من درايتي بكلّ الفظائع الّتي تلاحق النسّاء في العالم بأسره، من أفغانستان، حتّى السودان، فأوروبا والولايات المتّحدة، حيث يدبّ الحنين الجارف للذكورية وطاقتها المفقودة، تلك الّتي لم ننعم بإسكاتها سوى بضع سنوات، ما زلت، في كلّ مرّة أستمع لتجربة احداهُنَّ أرتجف، وأنتفض على شكل واقعٍ لا يريد أن يعترف أو يتنازل عن بعضٍ من امتيازاته ليتساوى طرفا الميزان الاجتماعيّ المخلوع من منتصفه.
وللباقيات ممّن يتردّدن أمام النَّسوية، أسأل، أما زلتنَّ تصدّقن مهزلة الحب والزواج، والعائلات السعيدة؟ بصدقٍ، ما الّذي يدفعكنّ للانخراط في دورة الروليت الغريبة تلك، ألا تخشين على أنفسكنّ من الخسارة؟ أنتنّ اللّواتي تمتلكن الحقّ في الاختيار، أتصدّقن فعلًا أن هذه المؤسسة، أو ذلك الشعور الأرعن الّذي لم نعرف له تفسيرًا سوى بروايات وأفلامٍ مُشَلَّعة وقاسية، قد يحمل لكنّ شيئًا من الهرب أو النّجاة؟ أما زلتنّ حقًّا تُردن الدّفاع عن الأنوثة الّتي "قتلناها" نحن النَّسويات، من أجل رخاء المطبخ، وأسرّة الجنس والانجاب، وأسطورة الرّجل الوفيّ؟ أَجِبنَ عن سؤالي، وكنّ صريحات، بلا تخفّ، أو رهبة أمام الكلمات: هل تستمتعن بالخضوع؟ هل تُمَلّلُكنّ الحرّية؟ الآن، وبعد أن زادت فرصنا كنساء بأن نصل جميعاً للمراكز الّتي يستمدّ الرّجل منها غطرسة ساديّته، لماذا تردن العودة لكيّ ملابسه؟ ما الّذي دهاكنَّ، حقًّا؟
لن يكون طعم العسل أطول من سنواتكنّ اليافعة، لن يكونَ المنقذَ من عالم يشكلّ فيه بعضٌ من أبناء جنسه الخطر، لن يفضّلَكِ طويلًا وان كان كذبه مبتكراً أكثر من غيره. أحاول أن أحذّرك من ملهاة الهوامات المسمّاة زواجاً. أحاول أن أخبرك بأنَّ سعادة العائلات المثاليّة مزّيفة، وأنّ ما من امرأة تعيش النّعيم الّذي تتصوّرينه. التّضحية موجودة في الحالتين، بشريكٍ وبدونه، لذا بدلًا من أن تُضحّي من أجل المجهول، كوني لنفسك القضية الأولى، وتجَنّبي طريق الميسر المحفوف باللايقين. خوضي معاركك، مٌشتَرَكَةً مع من مثلك، بدلًا من امضاءِ عمرك في اثارة اهتمام الرّجل، ورغبة الرّجل، وبقاء الرّجل، وأولاد الرّجل. فتذكّري، ذلك البيت الّذي تسهرين على لمعانه، هو من سيرتاح فيه، والأولاد، سيحملون اسمه، وجيلًا بعد جيلٍ، سوف تُنسين. انظري للنساء من حولك، وايّاك أن تغضّي البصر عن الأخطاء، أو أن تظنّي لثانيةٍ أن حياتك ستكون استثناءً، فالعالم على ما هو عليه، حتّى وان بنيتِ فيه قوقعتكِ الخاصّة مع من سيبدو لكِ لفترة معيّنة الشريك الأنسب. ما دام الوضع هكذا، وعوضًا عن السّير خلف القطيع الّذي يزيد أحوالنا ازدراءً، بوسعنا، على الأقلّ التوقّف وعدم تكرار تلك المسرحيّات. أشعروهنّ بأنكّن تستطعنَ ضرب الحياة معهم عرض الحائط، ما داموا يرون في -العرض- أداة إخضاعكنّ.
سمعت في احدى المقابلات التلفزيونية، مناضلةً نسويّة فرنسيّةً تقول بأنّ "أفضل نسويّة، هي النّسوية الميتة، ففي كلّ مرّة تطالب المرأة بحقوقها اليوم، نتحسّر على نسويات الماضي باعتبارهنّ محقّات أكثر"، إلّا أنّ ما يغيب عن أذهان الكثيرين، أنّ المطالب هي هي، لم تتغيّر البتّة، بل تُستخدم "كبش فداء" لأيّ تغيّر سياسيّ، حتّى يصحّ القول إن رجال السُّلطة والدّين على حدّ سواء، مرضى متطرّفون في الميزوجينيّة ولا يريدون سوى عالمٍ نساؤه جوارٍ.
اليوم، أضحى الوضع مقلقاً أكثر من أيّ وقتٍ مضى، خاصةً وأنّ المجتمع الدّولي قد أثبت أنّه أبرع المتفرّجين صمتًا، وأنّ أسياد العالم "يمينيّو الهوى"، فما بقي لنا إلّا أنفاسنا، إمّا نخنقها أو نطلق لها العنان...
نبض