منبر
03-03-2025 | 14:40
الصوفية والحضارة المسالمة
على مدى قرون من تاريخ هذه الأرض اللبنانية ومتاعب الحروب، يبقى السلام هو الغالب. محبة الناس للأرض تجعل سكانها يتعلقون بالأرض وسمائها وبالإنسان فيها.

على مدى قرون من تاريخ هذه الأرض اللبنانية ومتاعب الحروب، يبقى السلام هو الغالب
سامي أبي خليل
على مدى قرون من تاريخ هذه الأرض اللبنانية ومتاعب الحروب، يبقى السلام هو الغالب. محبة الناس للأرض تجعل سكانها يتعلقون بالأرض وسمائها وبالإنسان فيها.
على سبيل المثال، لا يمكن فصل حب الناس لأدونيس عن الطبيعة الخلابة التي ترافق حياته وصورته في ذاكراتنا الجماعية وتذكرنا بشبابنا في لبنان الجميل. فكان أدونيس معروفاً أكثر كرفيق عمر خَياليّ، حلم أسطوري، شاب نشيط مثالي أو كرمز أكثر منه كمعبود، كما يَذكره التاريخ كإله.
لقد تحدث العبرانيون وكتبهم عن لبنان واصِفينه "بجليل هجوييم" أي "دائرة الطيبين" (المسالمين). وهذا يدل أولاً على أن هناك من أهل مملكة يهوذا (اليهود) من كان يعرف منطق الطيبين ويؤيدونه وهناك الآخرون ممن لا يريدون الانتماء لهكذا منطق. والطيبون الفينيقيون والكنعانيون كانوا سكان لبنان وهذا الجليل.
كتب العديد من المؤرخين العرب عند الفتوحات الإسلامية وبعدها ونكتب أيضاً أنه يوجد في هذه الجبال والوديان اللبنانية كثير من القديسين والنسّاك ومحابيس الأديرة والمنازل والكهوف الجبلية وغيرها في أنحاء لبنان. وعددهم في الكيلومتر المربع أكثر من أشجار الأرز والبلوط والتنوب والشربين والعرعر مجتمعين.
كل هذه الأرواح والعقول الطيبة تجعل الإنسان في هذه الأرض يتأثر بهم، شاء أم أبى.
هذه ظاهرة قديمة تدفع الكثير إلى التصوف في لبنان. وهذا طريق يأخذ أشكالاً مختلفة، أكثر أو أقل وضوحاً نحو القداسة.
إن الروحانية والصوفية والتصوف والفلسفة التي نفهم بها العلاقة الفردية الخاصة مع الإلهي أو المقدس والتَديُّن، لها مواصفاتها الخاصة في لبنان. هي شكل من أشكال التشخيص بحيث يمكننا أن نؤكد أو على الأقل نُعَمِّمْ أن المسيحي الشرقي يفكر بشكل مختلف عن دينه أو عن علاقته الفردية مع الله عما هو عليه في الغرب. قال أحد علماء الأنثروبولوجيا وعالم الآثار شيئاً مشابهاً تقريباً عن الفينيقيين. بمعنى آخر، الفينيقي الذي يكتب نَصّاً بسيطاً وهو غير متدين وغير فلسفي. ورغم أنه كتبه وهو يتكيف مع المنفى وتأثيره، إلا أن أسلوبه يعكس بشكل واضح وبديهي فكره الفلسفي وتَدَيّنه واحترامه للإنسانية والدين. وهذا يُعَمّم التشريب العميق للفكر الفينيقي النموذجي وهو يُعَبِّر عنه بشكل أعمق من رجل الدين الرسمي في بلده الأصلي، فينيقيا.
على نفس المبدأ، نَذْكر الأمير عبد القادر الجزائري الذي اعتبره البعض كآخر قديس مسلم في القرن التاسع عشر وكأمير المؤمنين لأمانته وصدقه. حصل على أوسمة من البابا وفرنسا لأنه أنقذ آلاف المسيحيين في الجزائر وسوريا ولبنان. كان قد أمَر خلال حربه ضد فرنسا بحسن معاملة الجنود المعتقلين وعدم التعذيب، بينما كافأ الأتراك كل من أعاد الرؤوس.
وأرشد لاحقًا المسلمين السوريين لدَفعهم بإنقاذ حياة المسيحيين عام 1860:
"لم أقاتل المسيحيين، بل الفاتحين الذين أطلقوا على أنفسهم اسم المسيحيين". وكان له علاقات جيدة مع مسيحيي فرنسا، خاصة في أمبواز، وأصبح يفكر كمسيحي ناسك، مُجَرّد من أي هيجان شباني مُتسرّع، دون أن ينسى أنه مسلم مسالم وصاحب حق وعادل. وما الفرق عندما نَعبد ولا نستعبد، وعندما نملك ولا نستملك بالقوة. وأظهر رغبة قوية في تقريب الإسلام من المسيحية والشرق من الغرب، وهذا ما أعطاه شعبية بين الفرنسيين لدرجة أن نابليون الثالث منحه وسام الشرف الكبير، الذي ارتداه بكل فخر حتى وفاته في دمشق عام 1883.
ومن أهم أقواله حول الديانة:
"لو أراد المسلمون والمسيحيون أن يلتفتوا إليَّ لَوَضَعت حداً لخلافاتهم؛ لأصبحوا في الظاهر والباطن إخوة. 1850
لم أدرس الشخصية بعمق كافٍ لأفهم على أي ركيزة أو وثائق مكتوبة خَوّلته ترجمتها بهذه الكلمات التي تُشَخّص واقعاً وليس تَأمّلاً. وليس لدي ما يتفق مع كتابات "ابن عربي" سوى العزف على "التنوير"، دون أن أرى القرائن والحقائق التي أدت إلى ظهوره. لكنه مُقتنع بما يقول. وأعلم أنه اختار دمشق لأن مرجعه الصوفي "ابن عربي"، سيد الصوفية في القرن الثاني عشر، دُفن فيها. ولا شك أنه قد دَرَسَ وتمعّن بكتاباته خلال تجربته الصوفية في دمشق وفرنسا. وكان يحاضر في المسجد الأمويّ في دمشق ويُكَرّس نفسه للصلاة وتعليم اللاهوت. ودمشق مثل بيروت، مهد اللغة العربية-الآرامية. وكانت قريش، قبيلة النبي الأصلية، تتحدث هذه اللغة. وهذا لم يعد يترك مجالاً للتردد بشأن التفسيرات المختلفة، بل أعطى مجالًا للتأكيدات، ومن هنا جاءت تأكيداته. ديانتان "في الظاهر والباطن إخوة".
ربما يكمن هنا مفتاح كلماته الغامضة بالنسبة لي. ويتساءل المرء لماذا لم يشرح فكرته إلى النهاية ولماذا لم يحقق التقارب بين الديانتين إذا كان على يقين بذلك؟ وهو قادر لأنه عالم ولاهوتي ومحبوب من جميع أطراف العالَمَين؟
هذا هو الأمير عبد القادر الجزائري الذي لطالما ناضل بكل تفكيره وقناعته لإقناع مسلمي دمشق والعثمانيين بعدم غدر المسيحيين المسالمين في ديارهم في دمشق ولبنان. والغدر أتى دون إنذار مسبق وأطاح بالمئات من الأبرياء، ربما لتفاهات إقطاعيين أو زعماء عثمانيي التبعية، خائفين على مناصبهم. لقد نَسيهُم التاريخ اليوم ويذكر فقط الضحايا المقدسين والأمير الحكيم.
على مدى قرون من تاريخ هذه الأرض اللبنانية ومتاعب الحروب، يبقى السلام هو الغالب. محبة الناس للأرض تجعل سكانها يتعلقون بالأرض وسمائها وبالإنسان فيها.
على سبيل المثال، لا يمكن فصل حب الناس لأدونيس عن الطبيعة الخلابة التي ترافق حياته وصورته في ذاكراتنا الجماعية وتذكرنا بشبابنا في لبنان الجميل. فكان أدونيس معروفاً أكثر كرفيق عمر خَياليّ، حلم أسطوري، شاب نشيط مثالي أو كرمز أكثر منه كمعبود، كما يَذكره التاريخ كإله.
لقد تحدث العبرانيون وكتبهم عن لبنان واصِفينه "بجليل هجوييم" أي "دائرة الطيبين" (المسالمين). وهذا يدل أولاً على أن هناك من أهل مملكة يهوذا (اليهود) من كان يعرف منطق الطيبين ويؤيدونه وهناك الآخرون ممن لا يريدون الانتماء لهكذا منطق. والطيبون الفينيقيون والكنعانيون كانوا سكان لبنان وهذا الجليل.
كتب العديد من المؤرخين العرب عند الفتوحات الإسلامية وبعدها ونكتب أيضاً أنه يوجد في هذه الجبال والوديان اللبنانية كثير من القديسين والنسّاك ومحابيس الأديرة والمنازل والكهوف الجبلية وغيرها في أنحاء لبنان. وعددهم في الكيلومتر المربع أكثر من أشجار الأرز والبلوط والتنوب والشربين والعرعر مجتمعين.
كل هذه الأرواح والعقول الطيبة تجعل الإنسان في هذه الأرض يتأثر بهم، شاء أم أبى.
هذه ظاهرة قديمة تدفع الكثير إلى التصوف في لبنان. وهذا طريق يأخذ أشكالاً مختلفة، أكثر أو أقل وضوحاً نحو القداسة.
إن الروحانية والصوفية والتصوف والفلسفة التي نفهم بها العلاقة الفردية الخاصة مع الإلهي أو المقدس والتَديُّن، لها مواصفاتها الخاصة في لبنان. هي شكل من أشكال التشخيص بحيث يمكننا أن نؤكد أو على الأقل نُعَمِّمْ أن المسيحي الشرقي يفكر بشكل مختلف عن دينه أو عن علاقته الفردية مع الله عما هو عليه في الغرب. قال أحد علماء الأنثروبولوجيا وعالم الآثار شيئاً مشابهاً تقريباً عن الفينيقيين. بمعنى آخر، الفينيقي الذي يكتب نَصّاً بسيطاً وهو غير متدين وغير فلسفي. ورغم أنه كتبه وهو يتكيف مع المنفى وتأثيره، إلا أن أسلوبه يعكس بشكل واضح وبديهي فكره الفلسفي وتَدَيّنه واحترامه للإنسانية والدين. وهذا يُعَمّم التشريب العميق للفكر الفينيقي النموذجي وهو يُعَبِّر عنه بشكل أعمق من رجل الدين الرسمي في بلده الأصلي، فينيقيا.
على نفس المبدأ، نَذْكر الأمير عبد القادر الجزائري الذي اعتبره البعض كآخر قديس مسلم في القرن التاسع عشر وكأمير المؤمنين لأمانته وصدقه. حصل على أوسمة من البابا وفرنسا لأنه أنقذ آلاف المسيحيين في الجزائر وسوريا ولبنان. كان قد أمَر خلال حربه ضد فرنسا بحسن معاملة الجنود المعتقلين وعدم التعذيب، بينما كافأ الأتراك كل من أعاد الرؤوس.
وأرشد لاحقًا المسلمين السوريين لدَفعهم بإنقاذ حياة المسيحيين عام 1860:
"لم أقاتل المسيحيين، بل الفاتحين الذين أطلقوا على أنفسهم اسم المسيحيين". وكان له علاقات جيدة مع مسيحيي فرنسا، خاصة في أمبواز، وأصبح يفكر كمسيحي ناسك، مُجَرّد من أي هيجان شباني مُتسرّع، دون أن ينسى أنه مسلم مسالم وصاحب حق وعادل. وما الفرق عندما نَعبد ولا نستعبد، وعندما نملك ولا نستملك بالقوة. وأظهر رغبة قوية في تقريب الإسلام من المسيحية والشرق من الغرب، وهذا ما أعطاه شعبية بين الفرنسيين لدرجة أن نابليون الثالث منحه وسام الشرف الكبير، الذي ارتداه بكل فخر حتى وفاته في دمشق عام 1883.
ومن أهم أقواله حول الديانة:
"لو أراد المسلمون والمسيحيون أن يلتفتوا إليَّ لَوَضَعت حداً لخلافاتهم؛ لأصبحوا في الظاهر والباطن إخوة. 1850
لم أدرس الشخصية بعمق كافٍ لأفهم على أي ركيزة أو وثائق مكتوبة خَوّلته ترجمتها بهذه الكلمات التي تُشَخّص واقعاً وليس تَأمّلاً. وليس لدي ما يتفق مع كتابات "ابن عربي" سوى العزف على "التنوير"، دون أن أرى القرائن والحقائق التي أدت إلى ظهوره. لكنه مُقتنع بما يقول. وأعلم أنه اختار دمشق لأن مرجعه الصوفي "ابن عربي"، سيد الصوفية في القرن الثاني عشر، دُفن فيها. ولا شك أنه قد دَرَسَ وتمعّن بكتاباته خلال تجربته الصوفية في دمشق وفرنسا. وكان يحاضر في المسجد الأمويّ في دمشق ويُكَرّس نفسه للصلاة وتعليم اللاهوت. ودمشق مثل بيروت، مهد اللغة العربية-الآرامية. وكانت قريش، قبيلة النبي الأصلية، تتحدث هذه اللغة. وهذا لم يعد يترك مجالاً للتردد بشأن التفسيرات المختلفة، بل أعطى مجالًا للتأكيدات، ومن هنا جاءت تأكيداته. ديانتان "في الظاهر والباطن إخوة".
ربما يكمن هنا مفتاح كلماته الغامضة بالنسبة لي. ويتساءل المرء لماذا لم يشرح فكرته إلى النهاية ولماذا لم يحقق التقارب بين الديانتين إذا كان على يقين بذلك؟ وهو قادر لأنه عالم ولاهوتي ومحبوب من جميع أطراف العالَمَين؟
هذا هو الأمير عبد القادر الجزائري الذي لطالما ناضل بكل تفكيره وقناعته لإقناع مسلمي دمشق والعثمانيين بعدم غدر المسيحيين المسالمين في ديارهم في دمشق ولبنان. والغدر أتى دون إنذار مسبق وأطاح بالمئات من الأبرياء، ربما لتفاهات إقطاعيين أو زعماء عثمانيي التبعية، خائفين على مناصبهم. لقد نَسيهُم التاريخ اليوم ويذكر فقط الضحايا المقدسين والأمير الحكيم.
العلامات الدالة
الأكثر قراءة
العالم العربي
10/17/2025 6:20:00 AM
"وقهوة كوكبها يزهرُ … يَسطَعُ مِنها المِسكُ والعَنبرُوردية يحثها شادنٌ … كأنّها مِنْ خَدهِ تعصرُ"
ثقافة
10/17/2025 6:22:00 AM
ذلك الفنجان الصغير، الذي لا يتعدّى حجمه 200 ملليليتر، يحمل في طيّاته معاني تفوق حجمه بكثير
ثقافة
10/17/2025 6:23:00 AM
القهوة حكايةُ هويةٍ وذاكرةٍ وثقافةٍ عريقةٍ عبرت من مجالس القبائل إلى مقاهي المدن، حاملةً معها رمزية الكرم والهيبة، ونكهة التاريخ.
ثقافة
10/17/2025 6:18:00 AM
من طقوس الصوفيّة في اليمن إلى صالونات أوروبا الفكرية ومقاهي بيروت، شكّلت القهوة مساراً حضارياً رافق نشوء الوعي الاجتماعي والثقافي في العالم.