الإبراهيميّة الحقّة
"مسافةُ الألف مِيل تبدأ بخَطوة"
Smaller Bigger


الاب ايلي قنبر


1.الإعجاب بـ"إيقونة ما"

نعرف جميعًا أنّ كلًّا منّا يُعجَب بأحد والدَيه منذ الطفولة الأولى ويعمل على تقليده بكلّ الطرُق الممكنة. ولا يلبث أن يتحوّل عنه بعد عُمر التاسعة أو العاشرة ليكون معلِّمه/ معلمَته هي الإيقونة التي يريد أن يقتدي بها. وعند الدخول في عالم المراهقة يحصل التحوّل الكبير، عادةً، باتّجاه إيقونة جديدة كلّيَّا: مُغنٍّ/مغنِّية أو بطل ما يُبهره (مفتول العضلات أو من العالم الافتراضيّ) أو زعيم سياسيّ أو رجُل دين يُؤَدلِجه وييتحكَّم به عن بُعد (بالريموت كونترول "بالعربي الفصيح"). وهذا صحيحٌ عبر العالم وليس فقط في المجتمعات المتخلِّفة في ذكائها العاطفيّ خصوصاً، ما يتطلّب العمل على اكتشاف الذات، وتقدير ما لدى كلّ منّا من طاقات، وتطوير القدُرات الذاتيّة لسدّ الفجوة المعرفيّة والقياديّة، وصولًا إلى بعض الاستقلاليّة الذاتيّة والخروج من عباءة الوصيّ.
2. "فتقدَّم مُسرعاً..."
"مسافةُ الألف مِيل تبدأ بخَطوة"، صحيح؟ وها زكّا، اليهوديّ جابي الضريبة لصالح الرومانيّ المُحتلّ على حساب شعبه، قد سمع بيسوع الناصريّ وركض "مُسرعاً" لمُلاقاته لأنّه "كان يَطلُبُ أَن يَرى مَن هُوَ (هذا الـ ) يَسوعَ". ولِشدّة لهفته لأن يعرفه شخصيّاً بذل جهداً لذلك:"صَعِدَ إِلى جُمَّيزَةٍ لِيَنظُرَهُ، لِأَنَّهُ كانَ مُزمِعاً أَن يَجتازَ بِها". كان مِثل الطفل(ة) والمُراهِق(ة) شديد الإعجاب بشخصه عن بُعد والآن سنحت له الفرصة ليراه "ويطلب القُرب". ونظراً لتلك اللَّهفة الكبيرة لمُلاقاة تلك الأيقونة الشعبيّة العظيمة، ولأنّه "كان قصير القامة"، ولِئَلَّا يفوته اللِّقاء بيسوع، "تَقَدَّمَ مُسرِعاً وَصَعدَ إِلى جُمَّيزَةٍ لِيَنظُرَهُ، لِأَنَّهُ كانَ مُزمِعاً أَن يَجتازَ بِها". حاول لفت نظر يسوع، وقد ربح الرِهان:" فَلَمّا ٱنتَهى يَسوعُ إِلى ٱلمَوضِعِ رَفَعَ طَرَفَهُ فَرَآهُ". يا لَدهشة زكّا ! ولكن "وصلَت فرحة (زكّا) إلى قرعته" بحسب قَول شعبيّ لدَينا:" يا زَكّا، أَسرِعِ ٱنزِل. فَٱليَومَ يَنبَغي لي أَن أُقيمَ في بَيتِكَ". هذه المرّة الشخصيّة العظيمة أحبَّت زكّا لذاته وعملت على تفجير طاقاته الكامنة لصالحه ولصالح الآخَرين، سيَّما الذي ظلمهم. أحبَّته  دون شروط وبِلا حدود ولن تؤَدلِج الرجُل ولن تستعبده أو تستعمله كشيء. لا بل لجأ يسوع إلى القُربى منه، وأبسط طريقة إلى القلب أن تُجالس الشخص في موئله وحول مائدته فيصير بينك وبينه "خبز ومِلح"، فتتوطَّد العلاقة وتدوم وتدوم وتدوم. ما كان موقف جابي الضرائب "الخائن شعبه" والمُتعامل مع المُحتلّ؟ هل يُجيب زكّا يسوع الذي يُحاكمه الرؤساء والأعيان من الفرِّيسيّين والصدّوقيّين لأنّه "يُعاشر الخطأة والعشّارين والبغايا"؟ "فَأَسرَعَ وَنَزَلَ وَقَبِلَهُ فَرِحاً" لأنّ زيارة يسوع له اخرجته من عُزلته القهريّة ونَبذِه من "الرُّعاع" بحسب رؤية الرؤساء للعامّة الذين اعترضوا على زيارة يسوع للعشّار زكّا: "فَلَمّا رَأى ٱلجَميعُ ذَلِكَ تَذَمَّروا قائِلين: *إِنَّهُ دَخَلَ لِيَحِلَّ عِندَ رَجُلٍ خاطِئ*".
3. الحُكم المطلَق والمُبرَم
عندما نختلف بالرأي أو بالموقف تماماً كما في حالة زكّا الذي يعمل لصالح الغريب المُحتلّ أو في حالةِ أيّ طرفٍ لا يشبهنا في التفاصيل المُمِلّة أو في العقيدة الحزبيّة والسياسيّة والدِّينيّة أو في الملبس والعادات الاجتماعيّة، من السهل نعت الآخَر بالخائن أو بالعميل أو بالغريب والدخيل، و ومُقاطعته ومُحاربته بشتّى الأسلحة المتاحة حتّى عزله ونبذه. وكلّ ما سبَق يحصل بلحظة، ويُلصَق الحُكم على شخصه ومُجتمعه وأعماله. كيف نقرأ ؟
4. "الإبراهيميّة"
كيف قرأ يسوع زكّا؟ سبقَت الإشارة أعلاه. ولكن من المُفيد التذكير بأنّ الله بيسوع المسيح يقرأ كلّ واحد(ة) منّا بطريقة مُغايِرة عن قراءتنا "الأُمِّيَّة" أو الجاهلة والتسطيحيّة والحاقدة، والتي تُدين ذاتها عبر إدانة الآخَر(ى) الذي هو/هي مرآة نرى فيها قباحةَ أنفُسِنا، فنُحاول إزالتها من أمام أعيُنِنا.
قراءة الله بيسوع المسيح تكسف جمال صورة الله فينا وترى الطاقات الكامنة التي لم نلجأ إليها بعد لتثشكِّل مستقبلًا ساطعاً نفتخر به ونشهد من خلال طاقاتنا المُفجَّرة حديثًا لحبّ الله لجميع الكائنات على اختلافها- من بشريّة وغير بشريّة بآن. والبرهان زكّا ومُراجعته لحياته، والخيارات الصائبة التي بدأ يراها ويُنفِّذها على الأرض:"يا سَيِّدي، هاءَنَذا أُعطي ٱلمَساكينَ نِصفَ أَموالي. وَإِن كُنتُ قَد غَبَنتُ أَحَدًا في شَيءٍ أَرُدُّ أَربَعَةَ أَضعاف".
ما دفع يسوع إلى مُلاقاته مُجدَّدًا بعد الجلوس معه على مائدة الحبّ والغفران والمُستقبَل: "أَليَومَ قَد حَصَلَ ٱلخَلاصُ لِهَذا ٱلبَيتِ، لِأَنَّهُ هُوَ أَيضًا ٱبنُ إِبرَهيم. فَإِنَّ ٱبنَ ٱلبَشَرِ قَد أَتى لِيَطلُبَ وَيُخَلِّصَ ما قَد هَلَك".
نحن البشر كلُّنا بنات وأبناء الإيمان بإلَهٍ يقول لنا أن اخرجوا لِلقائي على غرار ابرهيم، حيث أدعوكم مع "كثيرين" لا  تُحصى أعدادهم إلى مائدة الأُخوّة بيسوع "ابني الحبيب" و"الوحيد"، وإلى التلاقي حول السلام القائم على المُصالَحة لا على العُنصريّة والأپارْتهَايد وإبادة الآخَرين الذي نعتبرهم "وحوشاً باشكالٍ بشريّة" تَخدمنا ولا تَستحقّ العيش إلاّ لتقوم بما نَفرضه عليها ونَرسمه لها إلى حين فَنائها أو القضاء عليها لانتهاء صلاحيّة أَسرِها.
أمّا ابن الانسان فـ"قَد أَتى لِيَطلُبَ وَيُخَلِّصَ ما قَد هَلَك"، سيَّما الذين يُهلكون بنات وأبناء ابراهيم الحقيقيّين.






العلامات الدالة

مواضيع ذات صلة

9/16/2025 10:11:00 AM

الأكثر قراءة

شمال إفريقيا 10/6/2025 7:23:00 AM
فرض طوق أمني بالمنطقة ونقل الجثتين إلى المشرحة.
النهار تتحقق 10/6/2025 11:04:00 AM
ابتسامات عريضة أضاءت القسمات. فيديو للشيخ أحمد الأسير والمغني فضل شاكر انتشر في وسائل التواصل خلال الساعات الماضية، وتقصّت "النّهار" صحّته. 
لبنان 10/6/2025 11:37:00 PM
افادت معلومات أن الإشكال بدأ على خلفية تتعلق بـ "نزيل في فندق قيد الإنشاء تحت السن القانوني في المنطقة".