منيف حمدان... القاضي حيثما ذهب

نبيل المقدم (*)
عندما نتحدث عن القاضي، والمحامي منيف حمدان الذي غادرنا منذ فترة وجيزة، فإننا لا نتحدث عن رجل قانون يشبه غيره، وإن كان سجل القضاء في لبنان يحفل بالعديد من الاسماء التي خُلّدت بأحرف من نور. لانبالغ إن قلنا إن منيف حمدان شكل بشهادة جميع عارفيه منهجاً لا ينهض بمثله إلا حملة الرسالات.
ولد القاضي حمدان في الكفير الواقعة في قضاء حاصبيا، في منزل متواضع محدود الدخل، كان والده يستدين القرش ليعلمه، وبعد أن نال الشهادة المتوسطة في مدرسة القرية نزل إلى صيدا، لأكمال المرحلة الثانوية في المدرسة الرسمية. ولكن مع وصوله، قيل له أنه لم يعد هناك أمكنة شاغرة، فكان أن قصد معروف سعد طلباً للمساعدة، والذي ذهب برفقته إلى المدرسة، وتمنى على إداراتها عدم حرمان الشاب القادم من بعيد فرصة التعلم، فتم التجاوب معه، ولكنهم طلبوا أن يحضر كرسيه معه لأن المقاعد لم تعد تتسع. وشعوراً منه بالوضع المادي الصعب لعائلته قرر الإتكال على نفسه لتأمين مصاريفه، فعمل بعد الظهر في بساتين الليمون.
.ربما يكون القدر قد شاء أن يضع منيف حمدان في موقعه الصحيح، عندما لم يحالفه الحظ في امتحانات الدخول إلى دارالمعلمين، لكنه عاد وابتسم له في دورة مساعد قضائي، مما اعطاه الفرصة أن يضع رجله على أول الطريق في درب العدالة. لم يقنع بوظيفته. كان طموحه دائماً يناديه للسير إلى الامام. فانتسب إلى كلية الحقوق في بيروت، وكان دائماً بين الاوائل. وبعد تخرجه، تقدم بطلب انتساب إلى معهد القضاء وحل اولاً في مباراة الدخول، ولكن المحاصصة الطائفية حاولت أن تحرمه فرصة هو مؤهل لها في إعلاء الحق وبلوغه، من خلال محاولة استبداله بشخص آخر لم يشترك في المباراة، ولم يكن يملك حق أن يشترك. ولأن منيف حمدان ليس من النوع الذي يقبل أن يُدهس حقه امام عينيه ويبقى متفرجا، قرر المواجهة وذهب على الفور لمقابلة الرئيس الياس سركيس، وكان يومها مديراً عاماً لرئاسة الجمهورية في عهد الرئيس شارل حلو، وطالبه برفع الظلم الذي وقع عليه.
وبعد أن استمع إلى قصته قررالدفاع عنه، وأطلق صرخته المشهورة "الله... أبوهم كيف يطبقون القوانين في بلادي"، وكررها ثلاث مرات فعلّمه بموقفه النبيل هذا أن "نصرة المظلوم هي أعذب صلاة في محاريب العدالة". بعد ذلك، تابع منيف حمدان تحديه لأصحاب النفوذ، واتصل برشدي المعلوف كاتب عمود "مختصر مفيد" في جريدة "الصفا" الذي تبنى قضيته، واستنفر المحررين، ووافق على اعتصامه في مكاتب الجريدة إن لم يتراجع المتسلطون عن تسلطهم بعد فتح النار التحذيرية... فتراجعوا.
طوال سنوات الدراسة في معهد القضاء، كان ترتيب منيف حمدان الأول دائماًَ، ويعد انتهاء الدورة أقام وزير العدل شفيق الوزان حفل عشاء تكريمياً للقضاة المتخرجين، القى في نهايته طليع الدورة القاضي منيف حمدان كلمة بإسم زملائه. أجمع الحاضرون على أنها تشكل منهجا متكاملاً لنهضة قضائية، شاملة. ولشدة انبهار وزيرالعدل بها، تمنى على مجلس القضاء الأعلى تعيين منيف مدعياً عاماً فوراً.
باشر منيف حمدان حياته القضائية محامياً عاماً في محافظة الشمال، حيث ترك بموافقه عناوين لا يسمو إليها إلا الكبار، وكان منها عندما رفض إطلاق أحد الموقوفين المحسوبين على رئبس الجمهورية سليمان فرنجيه، رغم كل الوساطات والتدخلات،. وبسبب موقفه هذا نقل إلى بيروت، وكان ذلك عام 1972.
في بيروت، واجه منيف حمدان رئيس الحكومة صائب سلام الذي اتصل به شخصياً متمنياً عليه اطلاق بعض الموقوفين من أنصاره القريبين، والذين ألقي القبض عليهم بالجرم المشهود في الحملة الانتخابية النيابية عام 1972 بتهمة مخالفة قانون الانتخاب. ولكنه اعتذر، واصر على التمسك بالقانون الذي اقسم على التزام ابجديته، والتي بها يكبر ويغتني.
لم يخضع منيف حمدان طوال مدة خدمته في السلك القضائي، بشهادة جميع من عرفه، لأي إغراءات أو ضغوط.. كان هاجسه الدائم تشريف العداله بأدائه الراقي، والشواهد على ذلك أكبر من أن تعد أو تحصى. كان يؤمن دائماُ بأن تعرية القضاء من الحق هي مفتاج الانحطاط في المجتمع، وهو قالها في أكثر من ندوة ومحاضرة له.
تولى منيف حمدان في حياته القضائية مناصب رفيعة، وتصدى لملفات حساسة، وإن ينسى قضاة لبنان فهم لن ينسوا وقفته الشهيرة ودوره المؤثر عام 1982 في اعلان الاضراب القضائي المفتوح، والذي فرض على الحكومة إنشاء صندوق التعاضد للقضاة.
كان محامياً عاماً في محكمة جنايات القتل، والتي تأخر إنشاؤها ثلاث سنوات بسبب الخلاف على رئاستها بين المسلمين والمسيحيين، وعندما استقر الرأي على أن تكون للمسلمين، انتقل السجال ليصبح بين السنة والشيعة حول الأحق برئاستها. وعندما حسم الامر، تألفت أول هيئة من القضاة حسن قواس رئيساً، لبيب زوين والياس موسى مستشارين، وعقدت اول جلسة بتاريخ 22/5/1978 في حضور ممثل النيابة العامة لديها المحامي العام منيف حمدان الذي القى كلمة تميزت بوجدانيتها وفصاحتها جاء فيها: "...وأن كنت الحرب قد انهكت عدالتنا، حتى صارت خيمة عنكبوت لا تستقبل في جنباتها إلا بائع الورد على الرصيف، وسارق الرغيف لطفلة تتضورجوعاً، فإن محكمتكم الكريمة قد جدلت للعدالة خيوطاً من حرير تطوق بها أعناقاً غليظة عبثت بكرامة الوطن وداست كرامة الانسان".
في ترؤسه لمحكمة الجنايات في بيروت قبل استقالته من القضاء، وانصرافه إلى المحاماة بعد أن وصلت تعويضات القضاة إلى حال تستدعي النحيب، كان منيف حمدان كعادته صخرة في الدفاع عن شرف المهنة، والأمثلة في هذا المجال كثيرة. إحداها عندما أحيل أمامه للمحاكمة أحد تجار المخدرات الذي كان مغطى بشبكة واسعة من العلاقات الأمنية والسياسية في لبنان وخارجه. يومها عرض عليه أحد الاشخاص إغراءت مادية و معنوية يسيل لها اللعاب في مقابل التساهل في الملف، ولكنه رفض المساومة على ضميره المهني.
وفي افتتاح جلسات المحاكمة، طلب من رئيس القلم أن يدوّن في سجله في حضور المحامين وجمهور من المتابعين، الكلمة الآتية: "قلناها في الزمن البعيد، وقلناها بالأمس القريب ونقولها الآن، وسنبقى نقولها حتى مجيئ الساعة، سنعطي الحق لصاحب الحق، ولو كانت ملوك الأرض ضده، وسنقتض من المعتدي ولوكانت ملوك الأرض معه".
بهذا الايمان كان منيف حمدان، والذي جعله ينتج فكراً وحركة للعدل ليس بمقدور إلا أصحاب النفوس الكبيرة إنتاجها. صدق سعيد تقي الدين عندما قال: "إن الكبار لاينتهون بمأتم".
(*)كاتب وصحافي