سامي أبي خليل

كَحّالِة كما يلفظها سكانها الحاليون دون لفظ آخر حرف، أو كُحولِت كما كان يلفظها أهل شمال لبنان ومن يقرأ ويتكلم السريانية أو الآرامية أو الفينيقية أو العبرية حتى لو كتبها كحّالة.
هذا اسم بلدتي في جبل لبنان.
منهم من فَسّر هذه التسمية نسبة لعادات أو تقاليد تكحيل العينين أو لوجود إمرأة كانت تفعل ذلك قديماً، كما قيل عن بعض القبائل والخيّالة القدماء في بلاد كنعان.
لم يقنعني هذا التفسير السطحي السهل. لأن لا أحد من الأجداد ذكر ذلك بل العديد منهم كان يردد كلام القدماء بالشعر الذي كانوا ينطقون به في حديثهم اليومي مع بعضهم ومع الآخرين في البلدة. ولم يرد ولا مرة ذكر أي عادة لها صلة بتكحيل عيون.
عندما نقرأ تاريخ الفينيقيين ولبنان، كانا رائدين في القداسة والتديُّن الذي كتب عنه ومدح به كبار مؤرخي العالم.
بناءً على هذا اليقين، لم يبق لي إلاّ البحث عن تعريف أقرب إلى الواقع التاريخي والمحكي من قبل القدماء في بلدتي. إنهم ضليعون في القصائد، ويعرفون الكتب المقدسة، وكانوا يمارسون التعليم المسيحي باللغة الآرامية لغة السيد المسيح على أيام أبي. على أيام جدي، أخبر يوماً أحد خصوم أهل ضيعتي، في أواخر القرن الماضي، حيث اعتاد الناس زيارة حتى الخصم لتقديم العزاء، أن فرسان القرية قد انتصروا في معركة جاء فيها عدد من رجالنا للدفاع عن المدنيين المسيحيين أثناء مجازر 1860 في جبل لبنان ولاحقوهم حتى انتصروا عليهم بدمشق، في معركة اليرموك.
فأكملت البحث بأرشيفات تاريخية ولغوية.
اذا أخذنا الاسم كما يُلفظ اليوم: "كَحّالي" وهو نسبة لكَحّال وكوحل العبرية المستندة إلى كوحوليت، تعني وفقاً للهيكل التنظيمي الثيوقراطي للمجتمع الذي ينادي به كوهوليت في عصره.
ماذا يقول الكتاب المقدس وقاموسه عن كوحوليت، الإكليزياست؟ اعتبر نفسه استمرارية فكر داود وسليمان الحكيم. انتقاداته بنّاءة للغاية وأمثاله مستمدة من الواقع المعاش للمجتمع.
ويبدو أنه بعد خمسة قرون من قيام الملك يوشيا بثورته ضد الكهنة الفينيقيين وقتلهم، ظنّاً منه استعمال الإله كأداة لربح الحروب، فخسر الحرب والكهنة وخسر القيم في المجتمع. وها هي هذه الشخصية تقوم بثورتها الثقافية الفكرية الاجتماعية السلمية في الاتجاه المعاكس، من خلال الإشارة إلى آثام ما أصبح عليه المجتمع في مملكة يهودا عام 250 ق.م. ، التاريخ المحتمل الذي عاشت فيه شخصيتنا وشاركت بكتابة التوراة، وفقاً لمؤلفي قاموس الكتاب المقدس، "اندري-ماري جيرارد."
إن عمل كوحيليت هو أول رد غير مباشر على السؤال الذي طرحه اهل يهودا على أنفسهم في تلك الفترة المضطربة، حيث أصبح التأثير اليوناني ثقيلاً على المجتمع: هل متعة الحياة التي اقترحها اليونانيون حقيقة أم أوهام؟
فهو وأحاديثه بمثابة مناصرة، دون تسميتها، للقواعد الأساسية للعائلة الفينيقية وحبها الإلهي والعاطفة الصادقة والحياة الهادئة بين أفرادها التي يشتاق لها أو يرغبها ربما لمجتمعه ويدعو للعودة إلى ممارساتها، رافضاً ما آلت اليه حالة المجتمع. وكأنه يرفض حتى مبدأ احترام الله ويعتبره غطرسة في حال فعلنا ذلك خوفاً من انتقامه، في حين أنه من المفترض أن نحب بعضنا البعض بصدق، كما هو الحال في الأسرة (يقصد الفينيقية). "نحن نخيف الآخرين بالله ونخاف منه". كل هذا "باطل، وكله باطل"، كموقف، وكطريقة تفكير، وكأسلوب حياة (يتكلم كفينيقي).)
هل كانت قريتي مكان الحياة، المنفى أو مكان الاعتزال لهذه الشخصية ؟
انه أحد مؤلفي الكتاب المقدس العبري وأبرز منتقديه بمقارنة واقعية بنّاءة معتمدة على أمثال حية من المجتمع. وهو يبشر بالعودة دون تردد إلى المقدسات العائلية، فأعاد المقام للقيم الفينيقية، وأكمل توضيح ما كان حوّره وما لم يفهمه البعض وأولهم الملك يوشيا.
هذه الثورة الفكرية مهدت الطريق أيضاً لمجيء السيد المسيح وساهمت بالتركيز على ما هو باطل وعلى ما هو الأهم للعيش السليم في المجتمع الذي يرتكز على العائلة والمحبة الأخوية بين أفرادها وفي المجتمع عامة. هكذا كان يقين الديانة الفينيقية وفلسفتها وتعاليمها. لا تعرف الخوف لا من الله ولا من الناس، بل تثق في محبة الإله والغير بمعناها النبيل النقي العاطفي. لا انحراف ولا مصلحة مادية تعلو فوقها، ولا أي خبث أو حساب يمكن أن يبعدنا عن جمال المحبة وطهارتها عند الآلهة وفي المجتمع، ولا الحرب ولا الموت يغير في معروفها.
لذلك أقترح فرضية مفادها أن كوحوليت شخصية فينيقية مهمة، ساهمت بكتابة انتقادية للتوراة ولم ينتقده أحد بقول العكس أو أي كلمة تناقضه. إذاً، أهل يهودا كانوا من الديانة الفينيقية أو اجتمعت الديانتان في أيامه ويقبلون كلامه ويلتزمون به كمنهج سليم. فأعجب بكلامه قدماء الكحالة الفينيقيّة، التي عاشت ثالوث الأسرة الإلهية الفينيقية واليوم ثالوث المسيحية. فأعطىوا اسمه لبلدتنا. لا نملك اليوم أي دليل آخر مكتوب إلا بكتب الجامعات، ولا قبر للتحليل للأسف ولا عائلة فينيقية أو عبرية في البلدة. اسمها بلفظه القديم والحديث خير دليل لتطابقهما.